فلسطين في الربيع القادم (1-4): إسرائيل في رحلة شيخوختها

 مع تعاقب موجات الربيع العربي وتراكم مفاعيلها وتنوعها، وكذا الوعيين السياسي والاجتماعي المتولدين عنها، يتولد لديَّ ظنٌ أن موجات الربيع القادمة ستتطور بحيث تكون أكثر عروبية ، بمعنى إدراكها أن أي مشروع سياسي إصلاحي ونهضوي في المنطقة لا يمكن تأسيسه في بلد واحد ولا على حساب بلد آخر، فتصبح هذه الموجات متجاوزة لقُطريَّتها، واعيةً لإقليمية ترابطاتها وتحالفاتها دون خطابة قومية أيديولوجية، ومدركة أن القوى المضادة لها تحمل نفس الطابع الإقليمي بشكل يتجاوز السرديات القديمة التي تتمحور حول الدولة القومية بصيغها «العربية والصهيونية والفارسية» وظني أن الأسابيع الماضية في فلسطين قد أشارت إلى أن الشعب الفلسطيني وقواه التحررية ربما سيكونون في القلب من تلك الموجات في المستقبل، ذلك أن المركب الصهيوني في المنطقة (داخل إسرائيل وخارجها) سيكون بدوره في قلب التحالف المضاد وبشكل معلن.

 وهذا المقال هو الأول من بين أربع مقالات، لم يكن من الممكن نشرها في كتابة واحدة؛ الأول عن إسرائيل في خريفها، والثاني عن مشاريع تجاوزها، والثالث عن المواقع العربية المختلفة من هذه المسارات، والرابع عن موقع العالم منها.. مشاركًا أو مشاهدًا

.………………………………………………………………………………

كي لا نحمل أنفسنا فوق طاقتها، فنحن لا ننتصر فقط بفضل صحة خططنا أو نجاعة تكتيكاتنا، فالصراع ليس خطيًا في اتجاه واحد، بل إن حالة الطرف الآخر ومسارات مشروعه صعودًا وهبوطًا وشروطه الذاتية، تُشكِّل طرفًا مساويًا في تشكيل المعادلة، وفى هذا الصدد تبشِّرنا إسرائيل، وترعبنا في نفس الوقت، بعد أن تحولت إلى حالة من الانحطاط الخالص.

ساندرز ويهود أمريكا بميولهم المختلفة  سيلعبون دور فى تحديد مصير اسرائيل

كانت إسرائيل دومًا مشروعًا دوليًا، وقرارًا دوليًا، لا أحد يستدعى لحظة إقراره بعقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897، بل بوعد وزير الخارجية البريطاني، أرثر بلفور، عام 1917، واليهود في العالم من خارج الولايات المتحدة وإسرائيل لا يتجاوزون 15% من إجمالي يهود العالم، فإسرائيل والولايات المتحدة يتقاسمان فعليًا الكتلة الأكبر من يهود العالم، وإذا كانت القدس هي عاصمة الصهيونية، فنيويورك هي عاصمة اليهودية، ويُخطئ من يظن أن مصير دولة إسرائيل خاضع فقط لتصورات وتصرفات المركب العسكري الأمني داخلها، فيهود العالم هم أيضًا لاعبون حاسمون في تحديد المسار والوجهة، خاصة بعد أن أصبحت إسرائيل وسياساتها مركز ثقل حاسم في تحديد مصيرهم هم، لقد كانت سنوات حكم الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، محفزة ومتسارعة على مستوى الفرز اليميني واليساري في الولايات المتحدة، والتي أصبح مجالها السياسي أكثر راديكالية وتنوعًا واستقطابًا، ومن قلب التنوعات والاستقطابات وإعادة التشكيل، أتى اليوم الذي تتعرض فيه قطاعات من يهود الولايات المتحدة لهجمات مسلحة عشوائية معادية للسامية من قبل أطراف يمينية أمريكية مسيحية خَلاصيَّة أو شبه فاشية، وهي إما متحالفة مع إسرائيل أو عاشقة لها أيديولوجيًا. لقد دار الزمن وأصبحت الصهيونية، وبشكل تدريجي، في قلب التحالف المعادي للسامية، دار دورة كاملة، لا لشيء سوى أن يثبت أنه لا يصح إلا الصحيح.

حفرة خراء أخرى في الشرق الأوسط

تكرر هذا الوصف الدارج باللهجة الأمريكية على مسامعي عدة مرات: «Another shit hole in the middle east» لم تعد إسرائيل قادرة على محاولة تسويق نفسها كواحة للديمقراطية في الشرق الأوسط، بل كبلد منضبط الإجرام قياسًا بجيرانه الذين يستخدمون الأسلحة الكيماوية ضد سكانهم، هذه صيغة مختلفة تمامًا عن الماضي، تسوق إسرائيل الآن نفسها بأنها البلد التي تنتج أسلحة الاستئصال الجراحي، وغزة هي معمل التجربة الميداني الذى يشاهده سوق السلاح العالمي. تُكثف إسرائيل ترويجها لمشهديّة المكالمات الهاتفية الموجهة لسكان القطاع قبل قصفهم، خاصة تلك التي تطالبهم بإخلاء المنازل خلال دقائق، وتؤكد على التطور التقني الذي يُمكِّنها من قصف بناية كاملة دون المساس بالبناية المجاورة لها، وتعتقد أن هذا كافٍ جدًا لإثبات علو كعبها الحضاري على باقي حُفر الخراء المتناثرة في الشرق الأوسط، وفي الواقع هذا مستوى من ضلال البصيرة ينتظره عقاب تاريخي، حالة من الوقاحة المتغطرسة التي تحتاج استفاقة بكف اليد، تمامًا كما يفعل الآن الإعلام الأمريكي المؤيد دائمًا لإسرائيل، والذى أصبحت قطاعات منه تصفها بأنها «asshole friend»

ولأنني أعتقد أننا نسير داخل زمن أفولها، أستطيع الآن القول في الصهيونية ما لم يكن من السهل قوله في السابق لأسباب معنوية، لقد كانت الصهيونية حالة متحمسة وفتية وجذابة لجمهورها، قدمت نفسها باعتبارها مشروعًا لمستقبل لا لماضٍ، اخترعت لغة عبرية جديدة وحولتها إلى ثقافة حية ومنتجة للمعرفة وهذا إعجاز، أعطت أملًا خلاصيًا لجموع مرفوضة في مواطنها السلافية الشرق أوروبية بالأساس، ثم رمت بثقلها في بلد شعبه كان لا يزال جنينًا خرج لتوه من الرحم العثماني، أما الآن فما تبقى منها ليس إلا خليطًا من الدروشة الدينية المذعورة وآلة عسكرية وأمنية شديدة التطور، لكنها مستحيلة الهدف مهما امتلكت من أسباب الردع، دولة إسرائيل في طورها الحالي راحت تخسر قطاعات واسعة من يهود الولايات المتحدة لتحاول الاستعاضة عنهم بحلفاء من العرب يريدون محاكاة نموذجها الاستيطاني الأمني في دولهم الشركات منزوعة الشعوب، لأعاجيب الزمن، صرنا نحيا في لحظة مسار زمنى لن تجد الصهيونية فيها منقذًا إلا من بين الرجعيين العرب الذين يتطلعون إليها هم الآخرون خوفًا من زمن الربيع.

جولدا مائير من زعماء الهستدروت الإسرائيلى

وباعتبارها حفرة خراء جديدة، لم تعد إسرائيل ذلك المشروع الصهيوني التشاركي لأبنائه المستوطنين المسلحين، لقد كان اليسار العمالي الصهيوني هو رافعة التوازن الحرج والمستمر بين الطبقة السياسية الناشئة قبل إنشاء الدولة وبين المركب العسكري الأمني الذى أرسى وجوده بتأسيس الدولة، وفي بداية التأسيس كان لهذا اليسار المدني المنظم كلمة عليا على المركب العسكري الناشئ وقتها، كان «الهستدروت» أو اتحاد عام العمال في إسرائيل هو الرافعة المدنية الشعبية الرئيسية، وكانت عضويته تشكل نسبة مئوية معتبرة من السكان، وكان زعماؤه ناس بوزن ديفيد بن جوريون وجولدا مائير، وفي الواقع كان القاسم الرئيسي المشترك بين كل رؤساء وزراء إسرائيل حتى منتصف السبعينيات هو موقعهم القيادي في الهستدروت، ولكن شأنها شأن أي رقعة أخرى على كوكب الأرض، أتت رياح النيوليبرالية على إسرائيل وضعف التنظيم العمالي الصهيوني. 

وتدريجيًا، فقدت الحياة السياسية مع الوقت سمتها المدنية، وللمفارقة أتت لحظة تدشين نفوذ العسكريين في الطبقة السياسية مع تشكيل حكومة الوحدة الوطنية التي سبقت حرب إرساء وجود إسرائيل عام 1967 بأيام، تلك التي أتت بموشى ديان في موقع وزير الدفاع، ليخرج بعدها ملكًا متوجًا على المشهد السياسي، وصعد العسكريون والأمنيون أكثر فأكثر لقيادة الأحزاب «المدنية» ومع الوقت، ومع زيادة قوة ونفوذ وإمكانيات الجيش والأمن، أصبح واضحًا أن هناك مركبًا عسكريًًا أمنيًا مؤسسيًا ينمو بالتوازي، وبدالة أسرع من المجال السياسي التقليدي، ومع الوقت أكثر لم يعد المكون العسكري الأمني قادرًا على تقديم سياسيين يلتحمون بالأحزاب السياسية الموجودة. كان إسحق رابين وإيهود باراك «كزعماء لحزب العمل» وأرييل شارون «كرئيس وزراء ممثل لتكتل ليكود» هم آخر ممثلين عسكريين داخل الطبقة السياسية يعتد بأهليتهم من قبل المجالين: السياسي والأمنوعسكري.

الجمع الفعال بين المكون العسكري والسياسي بدأ مع موشيه ديان وانتهى مع أرييل شارون

أصبح المكون العسكري الأمني في إسرائيل بعد شارون أميل إلى صيغة الحكم عبر دمى مدنية، لا نتذكر أولمرت وليفني إلا كمشاريع فاشلة ومتعثرة تؤسس تكتلات وأحزاب، اتضح مع الوقت عدم صلاحيتها لقيادة دولة من موقع الشريك الند مع المركب العسكري الأمني، ولم يعد العالم يهتم بانتخابات إسرائيل أو إفرازاتها أو دلالات التصويت فيها -أنا شخصيًا لم أعد أعرف اسم زعيم حزب العمل الحالي- لم نعد نعرف لهم من ساسة سوى ذلك الفاسد الهارب من حكم المحاكم بنيامين نتانياهو، الذي أصبح أطول رئيس وزراء في تاريخ إسرائيل وأصبح «حكمه» أشبه بحال حكم رؤساء وزراء باكستان «المنتخبين»

صار المجال السياسي الإسرائيلي سيركًا قوميًا للقوى المأفونة التي بدت في البداية خطرًا علينا، ثم اتضح أنها خطر عليهم هم، قوى شديدة الضحالة والانتهازية بقيادة مجموعة من الشعبويين الذين يرتجون أصوات انتخابية غاضبة شديدة التحول من كتلة لكتلة من انتخابات لأخرى، وأصبح المجال السياسي الصهيوني حصريًا للمهرّجين والمرتزقة، ولأحزاب دينية وقومية يمينية شديدة التخلف والبؤس ومعادية للحداثة من الأصل، ومع الوقت تطبّع الجميع مع الثقل الواضح والغالب للمركب العسكري الأمني الذي لا نعرف له رموزًا، حتى أننا الآن في 2021 نشهد قوة سياسية واضحة وحاسمة لتجمع الأحزاب الفلسطينية في الداخل، لدرجة أنها تقترب من أن تفرض نفسها شريكًا في الحكومات «الدمية»، وهو وضع لم أكن لأتخيله أو أتصوره شخصيًا منذ عشر سنوات مثلًا .

جزء مهم من محاولات «الحسبرة الصهيونية»* الحالية هو تسويق تل أبيب باعتبارها مدينة متعددة الثقافات والأمزجة وتتعايش فيها الميول المختلفة، ولكن محاولة اختصار إسرائيل في تل أبيب لن تصمد أمام صورة مدن الاستيطان الصغيرة التي تحولت إلى بيئة يمينية مهووسة، فإسرائيل أصبحت ترمي قطاعًا من المتحدثين بالعبرية في البحر، بالمعنى المجازي للكلمة طبعًا، وأصبحت مكانًا لا يُطاق لقطاعات من المتعلمين والمثقفين والأكاديميين غير القادرين على التعايش مع الطور المأفون القومي الديني الحالي، غير المتسامح مع أي آراء نقدية من أي نوع، حتى صار من الطبيعي أن تُكال الاتهامات بشكل ميكانيكي للمخالفين بأنهم طابور خامس يرددون مقولات منظمات حقوق الإنسان الدولية المعادية «لإسرائيل»، ونترك التشابه للقارئ الفاضل.

لم تعد اسرائيل إشتراكية الكيبوتسات بل حالة هوس دينى تدعمه جماعات مسيحية متطرفة فى أمريكا

لم تعد الصهيونية حلمًا قوميًا يؤسس ليوتوبيا «اشتراكية الكيبوتسات» لليهود المهاجرين من جحيم أوروبا، بل حالة من حالات التطرف الديني المسلح، وتحالفه الأمتن في الخارج أصبح مع طوائف مسيحية خَلاصية تنتظر بشغف، ووفقًا لخطة معتوهة، نهاية العالم عبر نهاية اليهود أنفسهم بعد أن يجتمعوا «في أرض الميعاد» ويهموا لبناء الهيكل السليماني فيظهر المسيح، شيئًا كهذا، وبأي معيار مجرد، يجب تفكيكه، إن لم يكن بسبب طبيعته الاستيطانية والإحلالية بالنسبة لنا، فعلى الأقل بسبب خطره على السلام العالمي، وكحالة من حالات التطرف الديني الأخرق، فالصهيونية في طورها الحالي أصبحت نوعًا من الخطر الوجودي على العبريين والفلسطينيين على حد سواء، وعلى يهود العالم -وأغلبهم في الولايات المتحدة- أن يدركوا أن النفسية الشمشونية الهرمجادونية التي لا تخجل إسرائيل من تقديم نفسها من خلالها في لحظة شعورها بالتهديد، هي نفسية يصلح التصالح مع مقولاتها حال كونها صياغة لبعض سيناريوهات أفلام هوليوودية، لا باعتبارها مصيرًا ممكنًا لشعوب من لحم ودم تحيا على هذه الأرض، وموضوعيًا -وفى خضم انتصاراتهم- لن يسعى العرب لاستئصال لليهود، لكن احتمالية الدمار الأعلى قد تأتي من الصهيونية، وهي في طور احتضارها المأفون مستخدمة آلتها العسكرية والنووية المنفلتة في لحظة جنون ما، لذا فأي محاولة دولية لثني مسار دولة إسرائيل عن مسار الجنون اليميني المحتوم الذي اختارته لنفسها، يجب أن يدرك أنه لن يمر إلا عبر مزيد من المكاسب للوجود الفلسطيني على أرض فلسطين.

حقائق جلية تُسطر تدشين الخريف

ليس مطلوبًا من الاستيطان الصهيوني ودولته سوى التعامل الواقعي مع ثلاث حقائق أثبتتها تجربتهم التاريخية في الشرق الأوسط، والتي هي تجربة منتصرة عسكريًا طوال الوقت وبلا توقف بالمناسبة.

الحقيقة الأولي: أنه ليست هناك إمكانية توسع صهيوني يتجاوز حدود فلسطين نفسها، ربما باستثناء الجولان والتي ليست إلا علامة خيبة تاريخية للكيان السوري الأسدي البشع.

الحقيقة الثانية: أن الفلسطينيين لن يغادروا فلسطين حتى وإن أُجبرت نسبة منهم على المغادرة عبر ما يقارب مائة عام، بل إن الفلسطينيين على أرضهم يزدادون عددًا، والمسار الديموغرافي في صفهم.

الحقيقة الثالثة: أن التعايش المشترك القائم على المساواة الكاملة بين كل سكان فلسطين ليس خيارًا إنسانيًا نبيلًا لبلابل السلام أو المهزومين في الحروب، بل هو واقع إجباري سيزداد إلحاحًا كلما زاد عمر هذا الوجود المشترك مهما اشتدت درجة التهابه وصراعيته، وهنا تصبح دولة إسرائيل في صيغتها الحالية على أرض فلسطين هي العقبة الموضوعية، لأنها دولة غير قابلة للحياة في ظل هذه المسار التاريخي النافذ، مهما استثمرت في آليتها العسكرية المتطورة وصدَّرت بعضا منها للعالم، ومهما توالت انتصاراتها العسكرية.

صحيح أن بعضًا من الاستيطان الصهيوني أصبح واقعًا تاريخيًا وأنتج شعبًا ولغة، ولكن فلسطين أيضًا أصبحت بالمعنى الحديث واقعًا ماديًا في نفس المكان وعلى نفس الأرض، فجولدا مائير كانت تخاطب الأمريكان في منتصف القرن الماضي وتقول لهم: نعم هناك أرضًا اسمها فلسطين، لكن لا يوجد شعب فلسطيني، فأنا كنت فلسطينية قبل عام 1948، ولكني الآن إسرائيلية لأن الدولة قد تأسست، ولم تكن تعرف أن الفلسطينيين سيجترحون معناهم الحديث ووجودهم كشعب عبر مسيرة شديدة العسر والكفاح والألم والملحمية، لعبت هي وأمثالها دورًا رئيسًا فيها من موقع الطاغية، لقد فشلت كل محاولات غزغزة غزة وضفضفة الضفة وأسرلة الداخل فشلًا لافتًا بالرغم من الاستثمار الضخم فيها، غزة لن تصبح مصرية وستظل فلسطينية، ببساطة لأن الغزيين فلسطينيون، واختاروا أن يكونوا فلسطينيين، أما إمكانية أن تصبح الضفة الغربية أردنية فهي أقل من إمكانية من أن تصبح الأردن كلها فلسطينية، فلسطين والفلسطينيون تأسسوا بالفعل في القرن العشرين والواحد وعشرين كوجود ووعي حديث، لم يعد الفلسطينيون خديجًا عثمانيًا غير مكتمل، ولن تستطيع مؤسسات دولة إسرائيل إنكار هذا الوجود الواعي بذاته في كل فلسطين، مثلما لن يستطيع أحد إنكار وجود «الشعب المتحدث بالعبرية» على نفس ذات الأرض بالرغم من إدراكنا لملابسات تأسيسه واستمرار وجوده، فالدول تختفي من على الأرض ويبقى سكانها.

حل الدولة الواحدة سيفرض نفسه فى النهاية ولكن كيف ؟

وربما، دون الخوض في الانحيازات، قد اتضح موضوعيًا مع الزمن أن حل الدولتين غير ممكن، لأنه من المستحيل أن تنشأ في هذه الرقع الجغرافية الصغيرة المعقدة دولتان لهما السيادة الكاملة، فصيغة الدولتين في الطور الحالي لا تعني سوى أن تصبح الأراضي المحتلة عام 1967 مناطق محكومة بشرطة فلسطينية نيابة عن دولة إسرائيل وسياساتها الاقتصادية والأمنية، ولذلك فشل هذا الحل في التطبيق، وليس لأن حماس أفشلته بالتفجيرات الانتحارية في التسعينيات، أو لأن سلطة فتح في الضفة كانت سلطة فاشلة فنيًا وسياسيًا، بل لأن صيغة الدولتين حتى في حال نجاحها الكامل ستفضي في النهاية إلى تجدد الصراع مرة أخرى على أرضية جديدة وبلغة جديدة، وقد باءت هذه الصيغة بالفشل في كل الأحوال، وأنتجت نمطًا أكثر غرائبية وتعاسة من صيغة الاحتلال الإسرائيلي المباشر والمسؤول إداريًا عن سكان مستعمراته، فهي لم تكن إلا صيغة مهمتها تكفير حياة أديان آباء الفلسطينيين، سواء في الضفة المتعاونة أو في غزة المتمردة.

لقد كانت إسرائيل دومًا صريحة في شأن حل الدولتين، ولطالما أوضحت أن هذه الصيغة تعنى تبعية كيان لآخر، منقوص السيادة في أفضل الأحوال، معدوم السيادة في الأغلب، تحاصره حواجز جيش الدفاع ومن خلفهم أسوار خرسانية، هكذا أثبتت التجربة بالفعل، لا سيادة في بحر أو جو، وسيظل الفلسطينيون مرتبطون بالاقتصاد الإسرائيلي من دون أن يكونوا شركاء فيه، لا من موقع رأس المال، ولا حتى من موقع العمل، اللهم إلا عبر تموضعات شديدة التعاسة، وهذه صيغة لم تكن قابلة للحياة، ولم تعنِ في حال نجاحها أو فشلها إلا أنها تجربة مرحلية مهمتها إثبات صحة توجه حل الدولة الواحدة.

حول مسألة الإلقاء في البحر تلك

إسرائيل ليست أول استعمار استيطاني في المنطقة، فالاستعمار الفرنسي في الجزائر كان أطول وأقسى، امتد 132 عامًا، وفي النهاية رحلت الأقدام السوداء إلى فرنسا في بواخر، لقد ألقت الثورة الجزائرية بالمستوطنين الفرنسيين في البحر فعلًا، لم يحدث ذلك لأن الجزائريين كانوا من هواة قذف البشر في البحور، بل لأن الاستيطان الفرنسي في خريفه كان استيطانًا يمينيًا فاشيًا إلى حد العمى والجنون، جعل من إمكانية التعايش في ظل وطن جزائري حر لكل مواطنيه فكرة شبه مستحيلة، بعد أن أباد بيده أو عبر وكلاء ما يقارب المليون جزائري، كانت صيغة طرد الاستيطان الفرنسي بنت آليات الصراع التي اختارها هو وفرضها هو، كانت حصادًا لجرائمه، فقد ظن المستوطنون الفرنسيون في الجزائر أن الجمهورية الفرنسية ستدعمهم إلى ما لا نهاية وحتى آخر جزائري، ولم يفطنوا إلى أن شارل ديجول سيغدر بقضيتهم بعد أن أيقن تمام اليقين أن الصراع السياسي حول المسألة الجزائرية سيكون سرطانًا سياسيًا في قلب باريس نفسها، ومهددًا لجمهوريته الخامسة مثلما أسهم في نهاية الجمهورية الفرنسية الرابعة، لذا لم يهتم العالم بمليون فرنسي رحلوا عن الجزائر في عجالة عبر البحار، ولم يعتبر أحد رحيلهم إلقاءً في البحر أو مأساة أو قسوة جزائرية، ذلك أن العالم أجمع كان يشاهد هذا الاستيطان الفرنسي وهو يحرق في نشوة قرى جزائرية بكامل سكانها في سنوات استعماره الأخيرة، لن يهتم أحد برحلة المهزوم البحرية الشاقة إلى مرفأ جديد بعد أن قتل مليون إنسان.

طغيان وإجرام الاستيطان الفرنسى كان السبب وراء طرد السكان الفرنسيين من الجزائر بعد حرب التحرير

كان الاستيطان الفرنسي غبيًا ومتغطرسًا وابنًا للماضي، لم يتصور أن الحفاة الجبليين سيستطيعون هزيمته، جُن جنون المستوطنين لاحقًا، وحاولوا اغتيال شارل ديجول في فرنسا، ليس مرة أو اثنتان بل ثلاثة، وبعد مرور ستين سنة على استقلال الجزائر، أصبحوا ذكرى تود فرنسا نسيانها، ربما باستثناء بعض أطراف أقصى اليمين المتطرف فيها.

تاريخ القرن العشرين أثبت أن لا الفلسطينيون هنودًا حمر، ولا الاستيطان الصهيوني مرادفًا للاستيطان البريطاني في أمريكا. المسلمون في ديارهم ليسوا سكانًا أصليين من النوع الذي يمكن إبادته أو تحويله، هكذا ظن الاستيطان الفرنسي في الجزائر فانتهى مطرودًا في مراكب أبحرت نحو مرسيليا ما بين عامي 1962 و1964، صحيح أن للاستيطان الصهيوني إشكاليته الخاصة، حيث لا مرافئ لاستقبال سفنه، ونحن نعي هذه المشكلة، وليسوا هم فقط، لكن على هذا الوعي المتبادل أن ينتج صيغه الإنسانية السليمة والعادلة، لا أن ينتج محارق هرمجدونية وخيارات شمشونية، خاصة من قبل الطرف الذي يملك أسلحة نووية، فوقتها سيكون جحيم البر فوق رأس الجميع، ولن يبقى إنسان كي يهرب عبر بحر.

 إسرائيل ككيان سياسي «غربي» كما يحب أن يسمي نفسه، في حالة تحول مستمر نحو صيغة حكم سلطوية واضحة، كما تنبأ منذ زمن طويل الصهيوني الراديكالي مائير كاهانا**، هذا التحول في حد ذاته، وخارج أي متغير آخر، كفيل بتغيير طريقة الاشتباك السياسي والعسكري معها، لم تعد العدو المتعقل البارد الذى سنهزمه بملايين الشهداء الذين لن يبالوا، إسرائيل أصبحت في طور يحتاج إلى تعامل من نوع مختلف، يضع في الاعتبار نزقهم وضلال حساباتهم، والتي قد يترتب عليها كوارث نتمنى تجنبها. في السابق كانت إسرائيل هي الغرب العاقل ونحن الشرق المندفع، أعتقد أن الأمر لم يعد كذلك، ولا عزاء لمحبي مواقعهم القديمة واستمراء الضعف.

……………………………………………………………………………………………………………

* الحسبرة: كلمة عبرية تعنى «الإيضاح» وهي عنوان لبرنامج إعلامي أمني أطلقته إسرائيل من عدة سنوات بغطاء من وزارة الخارجية ويهدف إلى تحسين صورة إسرائيل في الخارج ومطاردة ووصم أعدائها ومحاصرتهم، وتعتبر المواقع والصفحات الإسرائيلية الموجهة باللغة العربية جزءًا من هذا البرنامج.

** مائير كاهانا: زعيم ومؤسس حركة كاخ الصهيونية المتطرفة، التي كانت تدعو بوضوح وبدون لبس إلى تأسيس سلطوية عسكرية في إسرائيل وطرد كل سكان فلسطين من كل أرض فلسطين بما فيها أراضي عام 1967، وكانت رؤية كاهانا الراديكالية أقوى من أن تتحملها دولة إسرائيل نفسها، فرفضت المحكمة العليا الإسرائيلية ترشح حركته لانتخابات الكنيست عام 1984، وفي عام 1990 اُغتيل مائير كاهانا في نيويورك بعدة رصاصات أطلقها سيد نصير، الإسلامي المصري المهاجر إلى الولايات المتحدة وقتها.

…………………………………………………………………………………………………………….

** نشر هذا المقال فى مدى مصر يوم 25 مايو 2021

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

 مع تعاقب موجات الربيع العربي وتراكم مفاعيلها وتنوعها، وكذا الوعيين السياسي والاجتماعي المتولدين عنها، يتولد لديَّ ظنٌ أن موجات الربيع القادمة ستتطور بحيث تكون أكثر عروبية ، بمعنى إدراكها أن أي مشروع سياسي إصلاحي ونهضوي في المنطقة لا يمكن تأسيسه في بلد واحد ولا على حساب بلد آخر، فتصبح هذه الموجات متجاوزة لقُطريَّتها، واعيةً لإقليمية…

أترك تعليق