طارق البشري.. عرَّاب الوطنية المصرية وتِركَته
- by محمد نعيم
مر أكثر من أسبوعين على رحيل المفكر الكبير طارق البشرى. عند سماعي خبر رحيله المتوقع فى هذه الأيام الوبائية الكئيبة، لم تكن لديّ دوافع للكتابة عنه أو رثائه. الموت هذه الأيام بالجملة، وأعمال البشرى المؤسِسة باقية على كل حال، وهي كانت عنوانه فى حياته وستظل بعد غيابه، وسيبقى دائمًا واحدًا من ألمع المساهمين فى كتابة التاريخ السياسي المصري.
مكانة البشري صوَّرت لي أن وفاته ستكون مناسبة لفتح نقاش جاد حول إسهاماته النظرية المهمة، وهي إسهامات تحتاج إلى قراءة متعمقة ونقد أكثر تعمقًا، وتستحق قدرًا كبيرًا من التأمل والتأدب حين نبدأ في مناقشتها والتطرق إليها جديًا، سواء كان ذلك من موقع التبني المتحمس أو النقد العنيف، لكن المفاجأة جاءتني في صورة جدل أحمق وتلاسن ضيق الأفق أعقب انتشار خبر وفاته، تمحور معظمه حول دوره السياسي في أعقاب ثورة يناير، واتسم كالعادة بالغضب والعصبية اللتين تميزان نقاشات هذه الأيام، وبشكل دفعني إلى البدء في كتابة ربما لم أكن مستعدًا لها، لربما أستطيع تقديم مساهمة تحمل قدرًا من اللياقة ناحية ما قدمه المفكر الراحل.
بشكل شخصي، أعتبر طارق البشري في مراحله الأولى هو المؤرخ السياسي الأكثر عمقًا للوطنية المصرية، وفي مراحل أكثر تطورًا انتقل من موقع مؤرخ للوطنية المصرية إلى مرحلة المنظر الأول للوطنية المصرية بألف لام التعريف، ذلك أن الوطنية المصرية كأيديولوجية مهيمنة على وعي وخيال غالبية المصريين، ليس لديها أدبيات مؤسسة، وكثير من أبنائها الأبرار اعتبروها مجالًا للممارسة ومسيرة حركية أكثر منها مشروعًا فكريًا. لكن البشرى خلافًا لذلك، وربما بسبب مواقعه شديدة التنوع، سواء كمثقف يساري شاب متأثر بالماركسية الجرامشية، أو موقعه المهني كقاضٍ في مجلس الدولة، أدرك بذكاء لامع أن الوطنية المصرية فى حاجة إلى من يكتبها، كتابة تتجاوز في عمقها سرد عبدالرحمن الرافعي التفصيلي، وتأريخ صبحي وحيدة التأصيلي، وجغرافيا جمال حمدان الجافة.
رحلة طارق البشري الفكرية يجوز تقسيمها إلى محطتين، الأولى هي البشري الشاب الوطني التقدمي، وذلك من خلال كتابه المهم «تاريخ الحركة السياسية في مصر 1945 – 1953» الصادر عام 1972، والثانية هي البشري الشيخ الحكيم المحافظ بكتابه المرجعى «المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية» عام 1981. وتوج البشرى رحلتيه بكتاب «الديمقراطية ونظام يوليو 1952 – 1970» الصادر في أواخر الثمانينيات، مؤرخًا لسؤال أزمة الديمقراطية المصرية، وأزمة تطورها في ظل أكثر نظمها السياسية تعبيرًا عن تبلور مشروعها الوطني، وذلك بحسب قناعته.
البشري شابًا وطنيًا ديمقراطيًا تقدميًا
كان البشري الشاب أقرب إلى الوطنية الماركسية في طبعتها المصرية الوليدة، بنت حركة العمال والطلبة عام 1946، تلك الحركة التى أطلقت ولأول مرة آفاقًا اجتماعية وديمقراطية جديدة ووثابة، غرستها في وعي الحركة الوطنية المصرية ودفعتها إلى حدودها الأكثر تقدمية خلال القرن العشرين. البشري المولود في عام 1933 كان ابنًا لإرهاصات هذا الحراك الثوري الذي راح يموج وينعطف يسارًا ويمينًا لست سنوات، حتى وضع انقلاب 23 يوليو 1952 حدًا له بتبنيه الخطوط العامة لأجندته، فتحول الانقلاب إلى ثورة. البشري الطالب والشاب، كان شاهدًا على نهاية حركة 1946 بعد استئثار جمال عبدالناصر بالسلطة عام 1954، وفي هذا الوقت كان على علاقة حذرة ومؤمنة بتنظيم الحزب الشيوعي المصري «الراية»، وازدادت تلك العلاقة حذرًا وتحفظًا بحكم الطبيعة القمعية للسلطة الجديدة، وبحكم التحاقه بسلك القضاء المصري.
عكف البشري خلال الفترة الناصرية على تأمل الحراك المهم الذى سبقها وأجهضته هي ثم وثبت عليه، ومن خلال كتابه الأول «تاريخ الحركة السياسية فى مصر 1945 – 1953» قدم تبويبًا جديدًا للحركات السياسية في مصر وروافدها الفكرية، فكثيرون لا يعلمون أن البشري هو من وضع التبويبات الأربعة للتيارات الفكرية المصرية «الليبرالية، والاشتراكية، والقومية العربية، والإسلامية السياسية»، وأن هذا التبويب بالذات هو الذي سيبقى مرافقًا في بداهة لتصنيفاتنا السياسية المصرية، ربما حتى يومنا هذا. من خلال هذا العمل المهم، قدم البشري تصورًا عن الإمكانيات الوطنية المختلفة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وطبيعة المشروعات المطروحة على الساحة السياسية وقتها، وكذا طبيعة الأزمات التي رافقت كل مشروع فيها على مستوى علاقته بالقضايا الوطنية والاجتماعية وقضية الحريات. كان البشري في عمله التأريخي الأول أكثر نضارة في نظرته ونقده للمشاريع الوطنية المصرية من حيث كونها مشاريع حداثية قيد التأسيس وخاضعة لتطورات الممارسة ومحملة بإمكانيات متنوعة ويحدد مصيرها الصراع في إطار مشروع التحرر الوطني المصري والعربي. في هذه المرحلة كانت المشاريع الوطنية لدى البشري أكثر حالية ومعاصرة، جاءت لتجيب أسئلة حاضرها ولحظتها لا ماضيها وتراثها.
البشرى شيخًا وطنيًا محافظًا
لكن، شأنه شأن أي مفكر جاد، راح البشرى متأملًا في مآلات هزيمة 1967 وأثرها على المشروع الوطني المصري بالمجمل، كمشروع حداثي بالأساس، بدأ في القرن التاسع عشر، فبدا مهمومًا بالتأصيل له حفاظًا على مكتسباته المهددة بفعل التدهورات المتعاقبة بعد الهزيمة. إلا أن البشري في رحلته الجديدة تلك، وربما بحكم ارتهان الفكر السياسي عنده بالفعل السياسي –وهي فضيلة عظيمة– راح يبحث في أصول المشروع الوطني المصري لإثبات مكامن قوته، وما رآه جذورًا أصيلة في تكوينه، فعمل على كشف المكون الإسلامي الواضح داخل مركب الوطنية المصرية، وقدم هذا في كتابه المهم جدًا «المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية» والذي أربك كثير من متابعيه وقرائه في هذه الفترة، لما أفصح عما رآه البعض هوى نحو «التأصيل الإسلامي» للمشروع الوطني المصري.
في الواقع، لم تكن رحلة البشرى الجديدة تأصيلًا إسلاميًا بقدر ما كانت كشفًا لما هو موجود بالفعل، ونزعًا لإسقاطات ليبرالية -بالتمني في أغلبها- على الصيغة الأولى للوطنية المصرية، والتي كانت صيغة في كثير من ملامحها وجوانبها وارثة لتصورات إسلامية تقليدية ومحافظة عن معنى الأمة والشعب والحكم والولاية والتغلب. والحقيقة، لعب البشرى هنا دورًا مزدوجًا ومربكًا جعل كثيرين يبجلون عمله عن غير فهم أو ينتقدونه عن سوء فهم، فالرجل من زاوية قدم الجانب المحافظ فى الوطنية المصرية باعتباره جذرًا أصيلًا مؤسِسًا فيها، وهذا ما لاقى بالطبع قبولًا وهوى شديد لدى منتسبي التيار الإسلامي، لكنه في الوقت نفسه اعتبر هذا الجذر أساسًا لتأسيس الجديد وليس حالة أبدية، وهذا ما موضعه لاحقًا وبشكل ملتبس فى موقع «المفكر الإسلامي الديمقراطي». والحقيقة، كان البشرى نفسه مسؤولًا عن هذا الالتباس، لأن ما قدمه باعتباره تاريخًا طبيعيًا محافظًا للوطنية المصرية تم بصيغة «هذا هو طيننا وطينكم لا مهرب لنا منه» لا يمكنكم إنكار بداياته ومن ثم من استحقاقاته، على طريقة ناقل الكفر ليس بكافر، فتحول البشري في هذه الرحلة إلى منظر للوطنية المصرية كما هي، كما حدثت، لم يعد ناقدًا لها ولمسارتها، بل أصبح فخورًا بمسيرتها التاريخية على إجمالها، ومنظرًا لصيغ ممارساتها التأسيسية باعتبارها شأنًا طبيعيًا وعملًا من أعمال تطور الهوية «الأصيلة» في رحلة المعاصرة.
البشرى دولتيًا – ديمقراطيًا
كما أشرت في السابق، كان طارق البشري مثقفًا مشتبكًا، أثّر اشتباكه هذا على طروحاته بشكل واضح، ومع تدهور حال الدولة والمجتمع في مصر بشكل مستمر، جنح البشرى جنوحًا أكثر محافظة إلى اتجاه الحفاظ على الدولة المصرية كأولوية قصوى على ما عاداها. أصبح مع الوقت والزمن مفكرًا تكتيكيًا تحت وطأة الأزمة الوطنية المستمرة، فوسمت نزعة دولتية واضحة كتاباته وأفكاره، لكنها كانت بالرغم من كل شيء نزعة مدنية، تبحث عن أفقًا ديمقراطيًا عمليًا في ضوء الممكن وفي ضوء توازنات اللحظة الراهنة. ولهذا السبب، ومن هذا الموقع بالذات، كان البشري محلًا لتوافق بين الإخوان المسلمين والمجلس الأعلى للقوات المسلحة في أعقاب إزاحة حسني مبارك عن السلطة فى 2011، ليتم اختياره رئيسًا للجنة المشرفة على وضع تعديلات دستورية ديمقراطية على دستور 1971، وفي هذه اللحظة التاريخية بالذات تم إعادة رسم الصورة الذهنية المعاصرة عن البشري، وتشكيل ملامح الموقف منه كمفكر ومثقف وقانوني وسياسي، لأن خبرتنا القريبة علمتنا أن التاريخ بعد ثورة يناير 2011، هو التاريخ الحقيقي للمواقف وللممارسة السياسية في مصر وأن ما حدث بعدها يَجُب ما قبلها.
لكن بالرغم من ذلك، فإن اختصار شخص طارق البشرى في دوره السياسي أثناء محطة 19 مارس 2011، وعملية تعديل دستور 1971 بعد ثورة يناير، هو خطيئة كبرى لا تليق سياسيًا ولا معرفيًا، والتحدث عنه فقط باعتباره دمية المجلس العسكري والإخوان، هو نوع من استسهال المراهق الذي أصاب قطاعات لا بأس بها من المنتسبين لثورة يناير، حتى صار مرضًا مزمنًا فيهم، ولو بعد مرور عقد من الزمان على أحداثها، لأننا هنا لا نتحدث فقط عن قراءة خاطئة للرجل وتاريخ أفكاره وإسهامه المعرفي، بل عن الجهل بالتاريخ نفسه، الذى عشناه نحن بعقولنا وأجسادنا، الجهل بتقدير أوزان وأدوار من أسهموا فيه بالقدر المنصف.
في ظني، لم تكن مشكلة التعديلات الدستورية في مارس 2011 في جوهر بنودها أو طريقة صياغتها، ولكن في السياق السياسي الذي صاحبها، كان الإشكال تحديدًا في الطريقة التي تشكلت بها اللجنة التى أعدتها وحصر التمثيل السياسي فيها لجماعة الإخوان المسلمين وبشخص صبحي صالح دون تمثيل لأي تيار سياسي آخر، فكانت العملية وكأنها إعلانًا واضحًا عن تحالف مرحلي بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة وجماعة الإخوان المسلمين.
أدعو فقط لبعض التأمل في التعديلات وفحواها كما هي، كنصوص لتعديلات منظمة لعملية انتخاب رئيس الجمهورية وفترات حكمه، ومحددة لفترة انتقالية يقوم من خلالها مجلس تشريعي منتخب باختيار جمعية تأسيسية تضع دستورًا جديدًا وفقًا لجدول زمني محدد، ما العيب فعلًا في هذه التعديلات في ذاتها، غير أنها أتت على خلفية تحالف سياسي بين الجيش والإخوان لحظتها، ماذا لو تخلينا مثلًا استبدال صبحي صالح بالدكتور نور فرحات في عضوية اللجنة، هل كان سيتم النظر إلى نصوص التعديلات بنفس العين المتشككة؟!
لن أتحدث طبعًا عن طريقة كثير من أصحاب الهوى الإسلامي في التعاطي مع شخص وأعمال البشري، فأغلبها ذات طابع قبلي وغير معرفي، فكثير منهم سمعوا -أقول «سمعوا» لأن القراءة ممارسة عزيزة- أن طارق البشري كان مؤيدًا لفتح المجال السياسى للإخوان المسلمين قبل الثورة، وأنه من المتبنين لفكرة هوية مصر الإسلامية -وهذا غير صحيح طبعًا- وأن الرجل كان لديه هوى إسلامي ما، ما جعلهم يتعاملون مع شخصه وأعماله ومقولاته على طريقة الفنان الراحل سعيد صالح في مسرحية مدرسة المشاغبين حين قال «الجدع ده بيتكلم صح، ما دام قال دراع مرسي يبقى بيتكلم صح».
الجدل الذي أعقب وفاة البشري كان مؤسفًا بالفعل، ينطق بالاختناق والضجر الذي أصاب المجال العام المصري بفعل إغلاق كل قنواته، فأصبحت مناسبات الاشتباك الفكري المرتبطة بوفاة الرموز السياسية والفكرية ليست إلا مناسبة للتلاسن والصراخ، لقد ورثّنا الراحل طارق البشري تركة فكرية ثقيلة بالفعل، تحتاج إلى التأمل والنقد والتجاوز، فالرجل كان عرابًا فكريًا للوطنية المصرية، فأصبحت مكانته من مكانتها، وبقدر ما هي أيديولوجية مهيمنة على واقعنا إلى اللحظة المعاصرة، بقدر ما سيظل البشري باقيًا معنا بمكانته المهمة.. رحمة الله عليه.
** نشر هذا المقال فى مدى مصر يوم 18 مارس 2021
مر أكثر من أسبوعين على رحيل المفكر الكبير طارق البشرى. عند سماعي خبر رحيله المتوقع فى هذه الأيام الوبائية الكئيبة، لم تكن لديّ دوافع للكتابة عنه أو رثائه. الموت هذه الأيام بالجملة، وأعمال البشرى المؤسِسة باقية على كل حال، وهي كانت عنوانه فى حياته وستظل بعد غيابه، وسيبقى دائمًا واحدًا من ألمع المساهمين فى كتابة…
For Giulio Regeni نشيد الأممية
الوسوم والمفاتيح
أقباط أممية أنور السادات إسرائيل الأهلى الإخوان المسلمون الإسلاميون الإسماعيلى التطبيع التفويض الثورة الفلسطينية الثورة المصرية الجمهورية الجيش الربيع العربى الزمالك السيسى السينما المصرية الشيوعيون الصحوة الإسلامية الصين الطبقة الوسطى الفاشية الكورة المصرية المراجعة الوطنية المصرية الولايات المتحدة اليسار تاريخ العصامية والجربعة ترامب تيران وصنافير جمال عبد الناصر حرب أكتوبر حريق القاهرة حسنى مبارك دولة يوليو صلاح نصر فلسطين ماسبيرو مرأة مصر نسوية نوستالجيا هزيمة يونيو يناير
قائمة الكتابات بحسب المسائل والهموم
M | T | W | T | F | S | S |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | 3 | ||||
4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 |
18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 |
25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |