بعض القليل من ملامح الأزمة السياسية فى مصر

يُهيأ لي أن مصر معطلة الخيارات منذ الثمانينيات، ماديًا وواقعيًا، وخارج “لو” الإيديولوجية كانت الناصرية في نظري هي أول وآخر محاولات تأسيس عجلة للتنمية قادرة على إطلاق الحراك الاجتماعي والسيطرة عليه في آن واحد، هندسته بمعنى أصح  مع تلبية الحاجات الاستهلاكية لأكبر قطاع من السكان قدر الإمكان والسعي نظريًا، ومن حيث المبدأ، لدمج القطاعات الأكثر فقرًا وتهميشًا في العملية التنموية مما يجعل أساس الاجتماع العام أكثر سواءً وشرعية، وبالتالي تدور العجلة.مصر كدولة نامية متخلفة لم تملك الإمكانات التي تؤهلها لذلك. اختارت الناصرية وبحذر الحليف السوفيتي كطرف دولي يؤتمن على رعايته كمشروع ناشئ، ولم يبخل السوفييت بدعم مصر في محطات حاسمة لم يكن أحد غيرهم قادرا أو مستعدا أو يريد تقديم ذلك؛ فقد قدموا إسهامات نوعية في حقول الإنشاء والتسليح والتكنولوجيا والتدريب ونقل المعرفة التقنية. لكن الحالة السوفيتية نفسها كانت في أفول وكانت قد كفت تمامًا عن أن تكون نموذجًا ملهمًا للعالم حتى انهارت بالكامل مع منتصف الثمانينيات بالشكل الذي أعاد الاعتبار لخيارات السادات الاستراتيجية كخيارات عبقرية بعيدة النظر؛ فلقد كانت مصر السادات في الواقع هي أول القافزين من السفينة السوفيتية وفي وقت مبكر جدًا.

وباختيار مصر تغيير تحالفاتها الاستراتيجية الدولية والدخول في الفلك الأمريكي بشكل كامل مع منتصف السبعينيات تخلت بالتدريج عن مفهومها للنهضة والتنمية الذي صاغته مع الناصرية المرتبكة، وذلك لصالح حالة من الخلخلة المضطربة لهذا المشروع في أواخر عهد السادات. ثم أعقب تلك الخلخلة جمود تام في العقد الأول لحكم مبارك. عملية الخلخلة والجمود تلك تم بموجبها قتل الناصرية لصالح اللا شيء استراتيجيًا، لقد صرعت البرجوازية البيروقراطية مكونها الناصري واستدعت حفنة من الرأسماليين الاحتكاريين الإمّعات ليكوّنوا معًا عالمًا بلا رؤية لمستقبل مصر إلا رؤية استمرارهم هم في حكمها أو حكم ما تبقى منها، وتأسيس مصر التي تعد غاية وجودها هو عدم الانهيار.

تمخضت سنين البلادة السياسية فى الثمانينيات والتسعينيات فولدت جمال مبارك

تراكمت سنين البلادة فتمخضت عن جمال مبارك، حالة التكلس الثمانيني والجري في المحل التسعيني وبؤس استمرارهما لفترة تربو على العشرين عامًا، جعلوا من صيغة جمال مبارك اللاحقة صيغة “إصلاحية”، وهي كانت في رأيي المتواضع صيغة أوسع من أن تكون مجرد مطية لتوريث الحكم؛ فقد كان عالم أواخر التسعينيات في مصر والعالم، عالمًا بلا مشاريع وطنية تحررية أو متمردة، وكان التعولم هو العنوان العريض للمشهد، والتعولم هنا هو إدماج مزيد من الأسواق الناشئة في السوق العالمية وتحضير وتجهيز الأسواق البدائية لتكون في المستقبل أسواقًا ناشئة. وكان المدخل الوحيد لقياس تطور الدول هو مدى قدرتها على الاندماج في النظام العالمي سياسيًا وأمنيًا ومفاهيميًا. وكانت صيغة جمال مبارك هي الصيغة الوحيدة التي تضمن لمصر وطغمها الفاسدة إمكانية إدماج متطور نسبيًا وآمن داخل النظام الدولي والسوق العالمية، وبشكل يحافظ بشكل أمني وسلطوي على الوعد الاجتماعي لقطاعات محدودة ومحددة من الفئات الاجتماعية الوسطى الصاعدة بفعل الرواج الاقتصادي النسبي في التسعينيات. لقد كان الاندماج الأسرع في النظام العالمي من بوابة النيوليبرالية هو الشرط والأمل الوحيد المطروح على الساحة، وصيغ الدمج النيوليبرالي تلك كانت تتفاوت بين حدودها يمينًا ويسارًا: ففي يمينها تصور عن نظام أمني عقلاني وسلطوية راشدة تفتح هوامش أكبر من الحريات، أي تطوير نظام مبارك نفسه؛ وفي يسارها هي عملية تحول ديموقراطي كامل وتعددية حقيقية تدمج كل المكونات وأهمها الإسلاميين، وتسمح بتداول السلطة سلميًا وتستجيب للأجندات والمعايير الدولية الحقوقية. وبالمناسبة فإن حدود الخلاف داخل تصورات الدمج النيوليبرالي هي حدود الاختلافات نفسها بين الجمهوريين والديموقراطيين في أمريكا بشأن مقرطة العالم المتخلف.

ومع حلول الألفية كانت كلمة “الإصلاح” مرادفة لكلمة النيوليبرالية، وكان “الإصلاح” الاقتصادي بالطبع هو الذي له السبق على معانى الإصلاح، بما يعنيه من سياسات التكيف الهيكلي والخصخصة وتحطيم مفاهيم الرعاية الاجتماعية ومسؤوليات الدولة عنها، تحطيمها مفاهيميًا قبل تحطيمها ماديًا. وكان بعض “الإصلاحيين” “الشجعان” يتحدثون عن أنه لا “إصلاح” اقتصاديا دون إصلاح سياسي، والإصلاح السياسي مقصود به عملية تحول ديموقراطي مقيدة وإن كانت أكثر انفتاحًا.

حراك جمع قلب الدولة الصلب ومزاجا ديموقراطيا ناشئا لدى البرجوازية البيروقراطية- وفي قلبها القوات المسلحة- رأت في تطورات هذا المنحى خطراً على وجودها المتكلس والمتترس بقاع التاريخ. فالبرجوازية البيروقراطية المصرية منذ ثمانينيات القرن العشرين هي بالتعريف عقبة أمام التاريخ والتقدم ومعطلة لكل خيارات التنمية، بل لإمكانيات النمو حتى، وظلت تحتال على ما تبقى من الناصرية كوريثة لقيم الاستبداد فيها بعد أن فرغتها من مضمونها الاجتماعي بتؤدة وإصرار طوال عهدي السادات ومبارك. فهي تعادي الدمج النيوليبرالي بكل صيغه وتحت شعارات الناصرية نفسها وبشكل أكثر ديماجوجية وجنونًا، تخشى التغيير بالتعريف، لأنه قد يطيح بمجموعات فيها ويحدد أنصبة الباقين من إرث النهب المملوكي المكفول لها. لذا استشعرت الخطر وتحركت هي وممثلوها الإيديولوجيون من مرتزقة دولتيين وناصريين لم تبق من ناصريتهم إلا عبادة الاستبداد والأجهزة الأمنية.

وتحت شعار “لا للتوريث” تبلورت جبهة شديدة التناقض والانتهازية كانت البرجوازية البيروقراطية بأذرعها قطبًا رئيسيًا فيها وكان المزاج الإسلامي الإصلاحي والمزاج الديموقراطي اليساري الشاب قطبًا آخر، في حين وقف الإخوان المسلمون في منتصف المسافة بين تلك الجبهة وجمال مبارك- على حد وصف عماد عطية في كتابة له. كان التكتيك الحركي والخطابي هو عزل حسني مبارك عن الدولة ووصفه بالنظام أو الطغمة ومعه أمن الدولة والحزب الوطني، في مقابل تنزيه القضاء والجيش والجسم الرئيسي للإعلام وجسم الجهاز البيروقراطي للدولة، وهذه الجبهة/التواطؤ هي ما شكّل الكتلة التاريخية ليناير التي كانت قد بَنَت نزعة توافقية إصلاحية بين مكونات المعارضة من ناحية وكتل دولتية شديدة الرجعية والفساد من ناحية أخرى. هذا المشهد هو الذي توج نفسه بثورة يناير التي قامت في مواجهة انفتاح سياسي مرتبك ومتأزم وإصلاحات اقتصادية نيوليبرالية عبّأت ضدها أكثر مما حشدت لصالحها، وكل هذا على خلفية إمكانية استفزازية لتوريث حسني مبارك الحكم لابنه ضاربًا بعرض الحائط تقاليد البيروقراطية المصرية العتيدة وما تبقى من قيم النظام الجمهوري. وكعادة الأنظمة الاستبدادية فإن فرص واحتمالات سقوطها تزداد في اللحظات التي تبدو وكأنها تصلح نفسها- بحسب فكرة أليكسي دو توكفيل؛ حيث تنفتح شهية التغيير لتبتلع  بشراهة ما يطرحه النظام من فتات إصلاحي، ثم ما تنفك أن تلتهمه هو.

صرعت الثورة إصلاحا مستحيلا عبر عن نفسه فى شخص محمد البرادعى

الثورة صرعت إصلاحًا مستحيلًا. يهيأ لي أن يناير كانتفاضة شعبية حقيقية لم تخمد نارها لأشهر قامت بقتل كل احتمالات “الإصلاح” من داخل النظام تمامًا، وخربت فكرة الدمج النيوليبرالي بيمينها ويسارها، وبترت إمكانيته وعرت تناقضاته وجعلت أطراف المشهد أكثر تطرفًا وتترسًا ووعيًا بأزماتها الوجودية. لقد نزل الشعب المصري نفسه وحواشيه المدينية الكادحة في الحدث، ولم تعد القصة قصة تجاذبات بين أمزجة وخيارات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، بل كانت الثورة كاضطراب تاريخي سريع للأبنية القديمة أسبق من فاعليها الإيديولوجيين، ومن الخطابات التي حاولت أن تتسيدها، لذا كانت الأحداث أسرع من قدرة الأطراف على ملاحقتها. لقد كان هناك وضع ثوري، لكن ما تم طرحه من داخله هو في أفضل الأحوال آفاق إصلاحية “مترددة” تواجهها في المقابل ميول رجعية شديدة الصخب.

المزاج الديموقراطي اليساري الإصلاحي- والذي كان في رأيي المعبر عن روح الثورة كفاعل تاريخي للتقدم- وجد نفسه دون أي ظهير اجتماعي إلا جناح متمرد خطابيًا داخل الطبقة الوسطى المدينية وفئاتها البينية ما انفك حتى تراجع تحت وطأة الضربات وخوفه الطبقي الغريزي من التجذير الثوري دون تحالف اجتماعي واسع، وهو في النهاية مجرد جناح داخل طبقة السيولة هي عنوانها. ولا يرتقي هذا الجناح داخل هذه الطبقة لمرتبة العمود الذي يرفع سقفًا، وأي سقف قابل للحياة يحتاج لأكثر من عمود طالما الحديث هو عن عقد اجتماعي عنوانه التواطؤ وليس الصراع. لقد تخلت عنهم مبكرًا البرجوازية البيروقراطية بعد أن ضحت بمبارك، واختارت لأول مرة وبوضوح الجيش كممثل سياسي لها مع الاستعداد التام لتقديم كل التنازلات التاريخية  والمفاهيمية المرتبطة بهذا الاختيار. ولم يستطع الإخوان تقديم أنفسهم كممثلين اجتماعيين لمصلحة ما، واختاروا التترس الطائفي الذي هو رجعي بالتعريف، والمخيف في الوقت نفسه لكل ما عاداهم، وذلك من أجل تحقيق تصورات ضبابية مخبولة عن التمكين المنفرد.

ليست صدفة أن تكون أكثر الأصوات الثورية صدقًا وتوخيًا للاتساق هي أكثر الأصوات إصلاحية؛ فالثورة خطابيًا لم تكن إلا رغبة صادقة في إصلاح الدولة ليست لها القوة المادية لترجمتها ولا الظهير الاجتماعي الحقيقي القادر على حملها. وليست صدفة أن تلك الأصوات “الثورية” كانت أكثر الأصوات ميلًا للتوافق الوطني والتعقل والتعامي الساذج عن جوهر خيارات أطراف المشهد، وذلك في تناقض تام مع معنى الثورة التاريخي كظرف يطيح فيه الصاعدون بالخصوم. في المقابل كانت مستودعات الثورة المضادة تعبر عن نفسها بشكل راديكالي، فكانت اختياراتها جذرية واستعدادها للصدام مفتوحًا، وكانت القوى التي اختارها الشعب المصري لتخوض معًا جولة الإعادة في انتخابات الرئاسة ممثلة في شخصي أحمد شفيق ومحمد مرسي.

المازق هنا مأزق عربي. وظني أن ما زاد المشهد ارتباكًا هو أن حراك التغيير كان حراكًا عربيًا. أثبت الربيع العربي أن هناك أمة عربية، تتلقف أنباء الانتفاض وتسلمها لبعضها البعض في سرعة جعلت مخابيل الأنظمة العربية يرون فيما حدث مؤامرة مرسومة من قوة كلية القدرة. ومثلما كان الحراك عربيًا كان الحراك المضاد عربيًا أيضًا، ودخلت أطراف إقليمية على الخط، وبمعنى من المعاني تلاشت الحدود بين الدول وأصبح التدخل في الشأن المحلي من قبل الدول العربية وبعضها أمرًا عاديًا كل على حسب قدرته ونفوذه. فقد تم إدراك أن الطريق للرياض يمر بالقاهرة والعكس، ورأت أنظمة الخليج الهشة أن الحفاظ على نفسها من رياح التغيير يقتضي تدمير كل تجارب الدول المحورية للربيع العربي. ومع الوقت ظهرت علاقات القوة العربية- العربية بشكل خالٍ من أي لبس أو وهم، واستسلمت بعض الأطراف لبعضها وكانت المظلات التمويلية الخليجية حاسمة في خلق الولاءات في الدول المضطربة سياسيًا أو تلك التي في سبيلها للاختفاء من الوجود، وأصبح على كل القوافل أن تمر عبر الرياض أو طهران للتزود بالمال والمشورة وأحيانًا القرار. وفي حالتنا لعبت الدوحة/أنقرة دورًا واضحًا في دعم الإخوان المسلمين، ثم لعبت الرياض/أبوظبى دورًا أكثر حسمًا في تثبيت الحكم العسكري بعد 3 يوليو 2013، وأعلنها صريحة حاكم مصر العسكرى وقائد جيشها أن عاهل الرياض هو زعيم العرب وكبير العرب في أول تخلٍ خطابي مصري رسمي عن مكانة الشقيقة الكبرى. وعلى مستوى آخر فإن لمدى صعود وهبوط الحركة الإسلامية تأثيراته الإقليمية، فلا يمكن إغفال أثر صعود داعش في المشهد السوري وتأثيره على مجريات الأمور في مصر، ولا يمكن إغفال أثر سقوط الإخوان في مصر على معنويات الثورة السورية وهكذا. وحتى خارج إطار الصراع المباشر، فإن تأزم الأوضاع الداخلية في مصر مثلًا جعل من الاعتماد السياسي والمالي على دول الخليج عنصرًا حاسمًا في ظل إحجام الغرب ورؤوس أمواله عن الاستثمار في هذه البيئات المضطربة. ومع الوقت ترسخت قناعة بأن عملية التغيير وهندسة المنطقة صارت أمرًا يتجاوز نطاق الدولة الوطنية، وأن اقتصاديات المنطقة شديدة الترابط ببعضها البعض، أو بالأخص شديدة الترابط بالمكون الريعي الخليجي ورؤوس أمواله السائلة الساخنة، وما يعني هذا من ضرورة ضبط إيقاع أي تغيير أو أي حراك بإيقاع المراكز المالية المهيمنة والمؤثرة وفرض هذه المراكز لأجندة جدالاتها وأولويات صراعاتها على الباقين، وإلا فما دخل مصر تاريخًا وحاضرًا بالصراعات المذهبية في المشرق العربي؟ ويمكننا النظر إلى الحضور المصري الحالي شديد الارتباك في اليمن، والذي يجمع بين حتمية الدوران في الفلك السعودي والشعور بعدم الارتياح لمآلات هذا التورط وجدواه الأخلاقية والاستراتيجية. لقد كانت عروبية الحراك عبئًا إضافيًا على الفاعلين العرب، فهم مأزومون في داخلهم الوطني وفي الوقت ذاته خاضعون لنتاج تفاعلات نطاقهم الإقليمي.

استحكمت الأزمة السياسية بعد 28 يناير وإزدادت الأطراف تمترسا

حدث ما حدث واستحكمت الأزمة، وعطفًا على كل ما سبق فإنه يبدو لي أن المأزق تجسد في حصر الصراع بين إصلاحية مستحيلة ورجعيات انتحارية، فبعد أن دار التاريخ دورته وأطيح بحكم الطائفة الإخوانية المستحيل في مهده، وجدت البرجوازية البيروقراطية نفسها بقيادة مؤسسية للجيش وهو في موقع السيطرة التامة على المشهد، وهو أمر غير مسبوق في التاريخ، فلقد أثبتت برجوازية الإمعات المدنية أنها دون مستوى تأسيس وصيانة مجال سياسي أو استبطان ريادة قائدة لمجتمع تنهل منه بلا توقف. والبرجوازية البيروقراطية إذ تجد نفسها في هذا الموقع المتفرد، عطفًا على طبيعتها كعدوة التقدم بمعناه التاريخي، فهي لا تجد إلا الفاشية المرتبكة حلًا لإدارة المشهد. فعليًا لا يوجد بديل لهم غير ذلك، فخيارات الحفاظ على الدولة- أي الحفاظ على البرجوازية البيروقراطية في طور تحللها- تستلزم ذلك، والكل بالنسبة لها يشكل تهديدًا. فالانفتاح على العالم بالمنطق النيوليبرالى الكامل، فضلًا عن استحالته نظرًا لتعاسة برجوازية الإمعات سياسيًا وتنظيميًا، هو أيضًا مضاد لطبيعة بنية البرجوازية البيروقراطية وماسُ بمصالح قطاعات منها بالتعريف. واستعادة الناصرية، فضلا عن استحالتها التاريخية، فهي صارت أيضًا تتناقض مع الطبيعة المملوكية الحالية لحكمهم؛ فهذا نظام يرفض “ارفع رأسك يا أخي” من حيث المبدأ ولو بالزور. استدامة الحكم بالقمع والإرهاب المحض شرط لازم. كسر الأمزجة اليسارية الإصلاحية في الطبقة الوسطى وعزلها تمامًا عن أي محيط اجتماعي أوسع، ومنع إنتاج أي خطاب يصيغ أي لُحمة محتملة أصبحت مسألة حياة أو موت؛ هذا مع افتراض وجود استعداد نضالي لهذا المزاج في ظل تهشمه الحالي. وأخيرًا فإن إطالة أمد المواجهة مع الإرهاب الإسلامي مع احتوائه، ومع ترك الإخوان المسلمين يسبحون في ثقبهم الأسود ضرورة مرحلية، وهو الشرط الأكثر ضرورة لشرعية الاستمرار. فهزيمة هؤلاء النهائية تعني رفع الغطاء عن العربدة الفاشية وسحب تفويض الطبقة الوسطى المذل غير المشروط للبرجوازية البيروقراطية. الفاشية هي الحل إذن؛ فقد ثبت للبرجوازيتين “البيروقراطية والاحتكارية الإمعة” بما لا يدع مجالًا للشك أن أي عملية إصلاحية محسوبة تفتح الباب لعملية ثورية محتومة، فقرروا تلقيننا جميعًا درسًا في القهر ربما تدفع مصر من وجودها نفسه ثمنًا له.

السؤال هو: هل يمكن لهذا أن يستمر، أعنى بنيويًا وبصرف النظر عن أي تهديد محتمل له؟ إجابتي نظريًا هي لا، فهذا وضع لا يمكن له أن يستمر. نحن إزاء فاشية عصابية مأزومة، قدرتها على التدمير أضعاف قدرتها على البناء. فهي ليست فاشية تأسيس تعبئ طاقات تراكم رأسمالي واعد ووثاب. غير أنه في الوقت نفسه فإن عدم استمرار الوضع الحالي مرهون بقدرة الآخرين على كسره، ناهيك عن رغبتهم، وأنا ما زلت أرى أن مأزق البرجوازية البيروقراطية هو من مأزق الآخرين، ويمكن له الاستمرار برغبة وتواطؤ الآخرين واستعدادهم للتماهي مع الانحطاط خوفًا من انهيارات أكبر. فقد اختارت كل الأطراف المهيمنة التجابن عن إجابة الأسئلة التي طُرحت في تجربة يناير 2011، والتي أراها أذكى محاولة لإنقاذ الوضع من نفسه بشكل تواطئي وشبه سلمي. تهرب الجميع من الأسئلة الصعبة في زمن أسهل، فما بالنا بأسئلة أصعب في زمن أصعب. إنه مأزق تاريخي للجميع.

** نشر هذا المقال فى مدى مصر يوم 26 سبتمبر 2015

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

يُهيأ لي أن مصر معطلة الخيارات منذ الثمانينيات، ماديًا وواقعيًا، وخارج “لو” الإيديولوجية كانت الناصرية في نظري هي أول وآخر محاولات تأسيس عجلة للتنمية قادرة على إطلاق الحراك الاجتماعي والسيطرة عليه في آن واحد، هندسته بمعنى أصح  مع تلبية الحاجات الاستهلاكية لأكبر قطاع من السكان قدر الإمكان والسعي نظريًا، ومن حيث المبدأ، لدمج القطاعات الأكثر…

أترك تعليق