دول قومية بلا حدود قومية

حين أعلن محافظى وليبراليى الولايات المتحدة عن نهاية التاريخ فى أعقاب سقوط الأمبراطورية السوفيتية عام 1991 ، كانوا يعنون بذلك أن النظام الحالى هو النظام الذى سيستمر ويمتد لألف عام قادمة .

هذا الزهو اليقينى كان يحمل فى ثناياه إيمان تام بقدرة هذا النظام على مواجهة كل التحديات – أيا كانت – بالشكل الذى يمكنه من أن يكون نهاية للتاريخ ونظاما أبديا .

واحدة من تلك القدرات المتخيلة ، هى قدرة الدولة القومية الامبراطورية القائدة للنظام الرأسمالى العالمى – الولايات المتحدة – على إدارة الصراعات الكونية من موقعها ككيان سياسى يمتلك أكبر قوة عسكرية واكثرها تقدما فى تاريخ الأنسانية وبفارق أضعاف أضعاف عن أى قوة تالية لها ، وبحكم مركزية الدور الذى يلعبه الرأسمال الأمريكى فى تراكم الرأس مال العالمى بالمجمل وتنميته وتطويره وتربيحه .

مايحدث خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة هى أن قوة الأرادة السياسية للأمبراطورية القومية أصيبت بالوهن التدريجى فى مواجهة رأس المال نفسه وحركته ، ليس لصالح دولة قومية اخرى ، بل لصالح رأس المال بدون إرادة سياسية تعنون مصالحه هو ، وكأن رأس المال يعلن ليس فقط موت التاريخ وليس فقط موت الأيدولوجيا ، بل موت السياسة أيضا .

جاءت أزمة الكوفيد 19 لتسلط الضوء أكثر وأكثر على أزمة الدول القومية عموما ، وما تبدى من ضعفها الشديد فى مواجهة هذا التحدى قياسا بقدراتها ومواردها وموارد المجال السياسى التى تتحكم فيه نظريا .

الجيوش الجرارة العملاقة التى أصبحنا ندرك مع الوقت أنها صارت مكبلة بأسلحتها الفتاكة القادرة على تدمير الوجود الانسانى بالمجمل ، لم يتم استخدامها حتى الأن وتسخير قدراتها فى مواجهة الأزمة ، لا توجد إرادة سياسية فعلية تستطيع ذلك ، بشكل يطرح سؤال عميق عن معنى وضرورة هذه الجيوش من الأصل بميزانياتها العملاقة .. تلك التى لا تحارب انسان ولا طبيعة وتبقى هى عنوان وجود الدولة القومية نفسها وسجنها الذاتى !!

إذا كانت الدولة القومية هى رجال مسلحين وسجون وبنوك مركزية ، فالبنوك المركزية الأن كمعبر عن الإرادة السياسية للدولة القومية أصبحت فى حالة من التخبط الشديد وقدرتها على المبادرة أقل ، أما الرجال المسلحين والسجون فهم يعملون فى الحدود الدنيا لقدرتهم نظرا لتخبط وعجز الأرادة السياسية لمن يديرهم ، من يمرح فعلا فى ظل الكوفيد هم الشركات العملاقة ، من يمرح ومن يبادر ومن يحقق ومن يراكم ، بل حتى من يوجه السياسة التى ستواجه الكوفيد نفسه !!

لا أعنى فى ملاحظتى العابرة هذه دول العالم الثالث بالمرة ، فقد صارت عرض جانبى تجريبى للمشهد الرأسمالى العالمى ، الدول القومية التى اعنيها هنا هى كيانات بحجم الولايات المتحدة والأتحاد الأوروبى والصين وروسيا .

عدد من الدول الأسيوية مختلفة العناوين الأيديولوجية – الصين وكوريا الجنوبية وتايوان وفييتنام – حققت نجاحا ما فى التعامل مع الأزمة ، بشكل وظف السلطة السياسية وموارد الدولة والمجتمع وإرادتهما نحو الوصول لصيغة تعامل ناجح نسبيا مع التحدى ، ولا يمكن ان نعزى هذا الأمر الى اسباب ثقافوية تافهة كالتى يستخدمها مغرورى الليبرالية والمحافظية الأمريكية عن خنوع المواطن الشرقى لدولته .. عيب ولا يصح هذا الكلام .. الأمر يحتاج دراسة .

المؤكد أن الدولة القومية عاجزة عن التعامل مع التحدى الحالى، وفى نفس الوقت العالم كوحدة أممية يرفض التعامل مع الأزمة كموضوع أممى ، دولة قومية تم تجاوزها وعالم أممى مرفوض ، دولة قومية متقادمة بجيوش متخمة بلا وظيفة ، وعالم واقعه وتحدياته أممية لكنه محروم من الأممية السياسية بينما ترتع الأممية الرأسمالية فيه ذهابا وأيابا بمرح وسرية وحرية وإجراما .. وضع غريب جدا وصارخ .. لكنه ضرورى لأدراك الأزمة التى يتغافل عنها الكل منذ كارثة أزمة 2008 المالية .

المستقبل أصبح الان مرهون بقدرة الطبقات السياسية على مفاوضة رؤوس الأموال من موقع أكثر قوة ، لقد صار هناك بالفعل يدا خفية بحسب مجاز أدم سميث ، لكنها يد خفية عن المجال السياسى المعلن وعن حدود حركته المسماه دولة قومية ، لأى مدى ستحاول الدول القومية ولا سيما الكبرى منها الحفاظ على معناها ولأى مدى ستظهر الأزمات الحالية ضرورة أممية تفرض نفسها على الواقع وأزماته هذا ما ستظهره  أعوام 2022 و 2023 وفى ظل استمرار وباء الكورونا بهزاته الإرتدادية

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

حين أعلن محافظى وليبراليى الولايات المتحدة عن نهاية التاريخ فى أعقاب سقوط الأمبراطورية السوفيتية عام 1991 ، كانوا يعنون بذلك أن النظام الحالى هو النظام الذى سيستمر ويمتد لألف عام قادمة . هذا الزهو اليقينى كان يحمل فى ثناياه إيمان تام بقدرة هذا النظام على مواجهة كل التحديات – أيا كانت – بالشكل الذى يمكنه…

أترك تعليق