في ذكرى المذبحة| وقائع أكتوبر الذي أعرفه

في التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول 2011، كنت قد توجهت إلى المقر الرئيس للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي في شارع محمود بسيوني، لحضور اجتماع “لجنة الأوراق السياسية” المنوط بها تحضير البرنامج السياسي للحزب للمشاركة في الانتخابات البرلمانية، ونظرا لضيق المكان وكثرة الفعاليات؛ انتظرت حتي تفرغ إحدي الغرف لبدء اجتماعنا، وجلست في انتظار بعض الزملاء الذين لم يحضروا بعد.

في تلك الأثناء، كنت أتحدث مع صديقي ورفيقي أحمد فوزي، عضو الهيئة العليا وقتها، وأشرف حلمي، أمين التنظيم، وإذا برسائل نصية تأتي إلينا تقول إن الجيش قام بفض مظاهرة أمام مبني ماسبيرو، وإن هناك إصابات خطيرة. ثم تتابعت الرسائل بسرعة خلال دقائق، لتتحدث عن ضحايا ودهس بالمدرعات وإطلاق رصاص حي، وأن هناك قتلي كثيرين. قال أشرف حلمي مشككًا “مفتكرش الأمور توصل للدرجة دي.. صعب قوي”.

بعد عشر دقائق؛ بدأ يصل لمقر الحزب بعض الأعضاء المستجدين على العمل السياسي، وعلى ملابسهم دماء، ويعلو ملامحهم جميعا رعب استثنائي، مصحوب بصرخات هَلِعَة غير مصدقة، كثيرٌ منها لم يكن مفهومًا.

جمعت شتات ذهني في هذه اللحظات لأتذكر حوارًا إلكترونيًا حدث قبلها بساعتين مع أحد الزملاء، قال لي فيه إن مظاهرات للمسيحيين انطلقت من شبرا، وأن هناك مزاج للتحرش بها من قبل بلطجية الفلول، وأن كل الشعارات المتطرفة تُرفع معا في آن واحد “يسقط يسقط حكم العسكر”.. “ثورة ثورة حتي النصر”.. “الشعب يريد إعدام المشير”.. “البلد بلدنا”.

بدأ مزيد من الناس في التوافد على مقر الحزب، وبدأت الشهادات تتضح أكثر فأكثر. دخل علينا تامر الميهي وعماد جاد اللذان كانا هناك، ووصفا عملية الدهس التي قامت بها دبابات القوات المسلحة للمتظاهرين، وقدَّرا أن الجريمة كانت كمينًا مدبرًا.

عقدنا اجتماعا عاجلًا، اقترحت فيه أن يبادر كل من له صلات إعلامية قوية بالتحدث فورًا إلى مصادره وعلاقاته، لأن من ارتكب مذبحة بهذا المستوي من الإجرام؛ لن يتوانى عن نفيها أو التملص منها، بل وربما يسارع إلى لوم الضحية – وقد كان.

تم تكليفي بكتابة بيان عن ما حدث في ضوء الأخبار والشهادات المؤكدة التي وصلتنا. وفي الأثناء سمعنا هرجًا ومرجًا في الشارع، وأصوات ترتفع وتقترب. تملكني الخوف من أن يحدث هجوم علينا، خاصة أنه في الاجتماع؛ ذكر أحد الزملاء المتابعين بتركيز لما يحدث منذ بداية اليوم أن هناك حملة مدبرة للتحريض يتبناها التلفزيون الرسمي. كانت لحظة شديدة المأساوية والعبث: أن أشعر بأن حياتي قد تنتهي على يد أحد المواطنين المسلمين الغيورين الأشداء في أحداث عنف طائفي شعبي، بينما أنا جالس إلى مكتب لصياغة بيان عمَّا يجري.. بئس النهاية الحقيرة.

هدأت الأصوات قليلًا وانتهيت من الكتابة، ثم نزلت أنا وتامر الميهي وكامل صالح في حذر إلى الشارع المظلم، لنجد محل الخمور الموجود على ناصية شارع محمود بسيوني مُحطم وبضاعته مسروقة. ونجد مجموعات متفرِّقة من الشباب تتحرك بأداء دوريات التمشيط.

اقترب منا أحد هؤلاء الشباب وسألنا “سلامو عليكو.. فين محلات المسيحين اللي هنا؟”، فبدأ كامل صالح في فتح نقاش مع الشاب لم يحتمل تامر الميهي سذاجته، فسحبه من ذراعه وقال له “يالا كامل امشِ من هنا و تعالى أوصلك الأول”. في لحظات منحطة كهذه، نتذكر من هو المسلم ومن هو المسيحي، وماهي العواقب المحتملة.

توجهنا إلى سيارة تامر المركونة في ميدان عبد المنعم رياض، فوجدنا الأمور مُستتبة ولا خسائر مادية كبيرة بإستثناء زجاج سيارته الأمامي. وبعد أن وصَّلْنا كامل إلى المهندسين تحركنا عائدين نحو مصر الجديدة، وبينما نحن فوق كوبري أكتوبر؛ نظرنا صوب المستشفي القبطي في غمرة وكان هناك بعض الهرج والمرج أيضا، عرفنا لاحقًا أنه كان محاولة اعتداء على المستشفي.

لحظتها استدار لي تامر وقال “دلوقتي الموقف كالتالي.. إنت عندك سلطة عسكرية تقدر تتعشي بتلاتين أربعين بني آدم وبعدين تروح بالليل تنام عادي”. رديت قائلاً “آه.. والخوف إن لو الموضوع عدّى؛ ممكن التلاتين أربعين دول يبقوا تلتمية ربعمية بعد كده”. قال تامر “ياساتر عليك.. ده إنت إنسان سوداوي وكئيب يا أخي”. رديت “أنا آسف حقك عليا.. حاول تستحملني معلهش”.

ثم هربنا من قلب القاهرة المخيف.

بعد شهرين فقط؛ وبعد أن أصبح للقتل شهية مفتوحة لا تعتذر عن نفسها، فتحت التلفزيون لأجد اللواء عادل عمارة عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة – والذي سبق وعقد مؤتمرًا صحفيًا عشية مذبحة التاسع من أكتوبر- يعقد مؤتمرًا صحفيا جديدًا بعد مذابح “أحداث مجلس الوزراء”، مرتديا بيريه أخضر، يكشف فيه عن أقبح وجه يمكن أن يُقدَّم على الإطلاق. قال: “نحن لم نقتلهم، وهم من يقتلونا. فنحن لا نقتل الشعب أبدا”. ولكن مافهمته منه أنه يطلب مِنَّا أن ننظر جيدا في عينيه، وأن نرتعب، وأن نعرف أن كذبه المُجرِم ينبئ بما هو أسوأ. كمن يقول لنا ماذا أنتم فاعلون؟ هل تملكون دبابة مثلي؟

** نشرت هذه المقالة على موقع المنصة فى 9 أكتوبر2016

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

في التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول 2011، كنت قد توجهت إلى المقر الرئيس للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي في شارع محمود بسيوني، لحضور اجتماع “لجنة الأوراق السياسية” المنوط بها تحضير البرنامج السياسي للحزب للمشاركة في الانتخابات البرلمانية، ونظرا لضيق المكان وكثرة الفعاليات؛ انتظرت حتي تفرغ إحدي الغرف لبدء اجتماعنا، وجلست في انتظار بعض الزملاء الذين لم…

أترك تعليق