نصر أكتوبر كنجم فى فلك هزيمة يونيو

يحق لشاب عمره الآن 30 عاما أن يتساءل عن السر في استمرار الحفاظ على 6 أكتوبر 1973 كتاريخ محورى بجانب 23 يوليو. فإذا كانت يوليو قد أسست دولتها ونظامها الراغبين في الاستمرار الأبدى فأكتوبر هى محطة مسلحة من محطات الصراع المصرى الإسرائيلى الذي من المفترض أنه انتهى بإبرام اتفاقية كامب ديفيد وهى الإتفاقية الصامدة أكثر من أي شيء آخر في تاريخنا المعاصر وربما هي أكثر صمودا من النظام المصرى الذي أبرمها، لكن إجابة تساؤل استمرارية محورية اكتوبر لما فوق الـ 40 عاما هو في رأيي لا يرتبط بكون اكتوبر محطة في علاقتنا بإسرائيل بقدر ماهى «المحطة» الأبرز في علاقة الجيش بالمجتمع والدولة والسلطة في مصر من بعد يوليو 1952، فهزيمة 1967 فضلا عن أنها حطمت الجيش كإحدى أهم دعائم النظام إلا أنها أيضا أنتجت صراعات داخل النخبة الحاكمة انتهت لاحقا بقيام السادات بتهميشه وتحطيمه لأذرع النظام السياسية المتمثله في التنظيم الطليعى ومنظمة الشباب والكادر المسيس داخل الاتحاد الاشتراكى في إطار الصراع مع مراكز القوى أو ما يمكن تسميته وقتها بـ «يسار النظام» من دون تأسيس بديل بنفس المستوى، بالتالى اصبح المشهد ينذر بفراغ كان يجب أن يملأه من يستطيع الحفاظ ماديا على أركان السلطة، لذا كانت عودة مشرفة للجيش إلى المشهد العام من بوابة «اعلان انتصار عسكرى» شرط ضرورى لاستمرار النظام السياسى نفسه مثلما كان تحطيم الجيش عام 1967 شرط لازم لإنهاء الصراع بين عبدالحكيم عامرو قيادة الجيش من ناحية وبين جمال عبدالناصر وهو الصراع الذي تحول من كونه مكتوما بدءا من 1962 إلى صراع واضح ومخيف وله تجلياته المنذرة بكل سوء منذ أواخر 1965.

استهل السادات خطابه أمام مجلس الشعب في 14 اكتوبر 1973مرتديا زيه العسكرى بجملة «استعاد الشعب اليوم ثقته في قواته المسلحة» وهى جملة ربما تتخطى دور الثقة في الجيش كمؤسسة مقاتلة إلى ما تعنيه مستقبلا من استعادة دور الجيش في عملية الحكم وبناء الشرعية للسلطة السياسية التي اهتزت بتهمشه بعد هزيمة 1967، فالجيش بعد 1973 استعاد شرعية مكانته كأحد مكونات السلطة في مصر واهمها على الاطلاق بحكم طبيعته المسلحة والوطنيةومن هنا كانت جملة السادات بأن «جيل اكتوبر يجب ان يأخذ مكانته» اعلانا سياسيا كان مردودة هو تعيين أحد قادة الأفرع في الحرب نائبا لرئيس الجمهورية كممثلا للمؤسسة العسكرية ولهذا الجيل في السلطة السياسية، فلا يمكن وقتها اعتبار حسنى مبارك كفرد له من الإمكانيات السياسية والشخصية التي تؤهله هو شخصيا لأن يكون خليفة للسادات أكثر منه ممثلا للمؤسسة التي سترث النظام السياسى المتآكل الذي اصبح لا يثق في اجنحته السياسية المدنية ولا يعتد بها على الاطلاق في صناعة القرار السياسى لتدخل مصر في مرحلة الاستبداد «اللا سياسى» في عهد السادات ولاحقا وبقوة في عهد مبارك في مقابل الاستبداد «السياسى» في عهد عبدالناصر

بهذا المعنى أكتوبر كانت أكبر من كونها معتركا عسكريا، أكتوبر سياسيا هي السند الذي أعطته القوات المسلحة لنظام سياسى مترنح وحصلت لقاءه على مكانه وصلت لاحقا بعد كامب ديفيد لمرتبة دولة داخل الدولة وأحيانا خارجها لتكون عاصم لها من الانهيار وحصلت ايضا معه على موقع رئيس الجمهورية ومواقع أخرى، فأسماء حسنى مبارك وعبدالحليم ابو غزالة وكمال حسن على وقائمة تطول ممن تبوؤا مواقع قيادية وتنفيذية في الدولة لم يكونوا من تنظيم الظباط الأحرار ولما تكن مصدر شرعيتهم هو تدخلهم السياسى الوطنى من موقعهم في الجيش فهؤلاء كانوا عسكريين أقحاحا محترفين أمضوا كل حياتهم داخل المؤسسة العسكرية وتوجوا هذه الحياة بدورهم في اكتوبر التي ستصبح المناسبة الوطنية الثانية بالتوازى مع 23 يوليو .

أصبح حسنى مبارك ممثلا للقوات المسلحة فى القيادة السياسية بعد حرب أكتوبر

ما سبق جعل من اكتوبر صنم لا يمكن الاقتراب منه بشكل نقدى، واصبح الحديث عنها سجاليا بين الدولة واجهزتها وجبروتها واذرعها واعلامها وبين اصوات متمردة قليلة تأخذ الحدث إلى حده الثانى فتفتقد في حديثها الموضوعية ويغلب عليه التصيد والكيد. ومن جانبها الدولة / الجيش كانت شديدة الشراسة والحسم فيما يخص الحديث عن اكتوبر لدرجة وصلت إلى حجب وتجريم رواية رئيس أركان القوات المسلحة وقت الحرب سعد الدين الشاذلى لفترة طويلة وحتى يناير 2011 لأن فيها ما لا يصطف بالظبط مع ما تريد هي رسمه وتقديمه، ويبدو الامر لى منطقيا لان الأمر لا يتعلق بنقد محطة عسكرية مصرية بقدر ماهى نقد لنقطة الإرتكاز في النظام السياسى وشرعيته وهو امر غير مسموح به بالقطع في بنية استبدادية، ولكن بعد يناير 2011 ويونيو 2013 والاحداث الجسام التي تمر بها مصر ومحاولة الجيش تأسيس شرعيات جديدة واوسع لسلطته، ربما أصبح من الممكن الحديث عن اكتوبر بشكل اكثر تحررا من ذى قبل وإن كان الجيش بحكم طبيعة نزعاته الأبوية يريد وصاية تامة على كل محطات التاريخ بحكم تصوراته عن نفسه كوصي شرعي على الدولة المصرية وتاريخها منذ النشأة وان سلطاته الحالية هي حقه الطبيعى كصاحب للدولة المصرية الحديثه، وبالتالى سيتمسك الجيش ومفكرينه واقلامه بكل شبر في روايتهم بصرف النظر عن اهمية ذلك من عدمه .

أكتوبر كمعنى مصرى خاص

لكن رغم ذلك نرى انه واجب علينا في مواجهة التطبيل الإعلامى الرث والروايات الجاهلة في مواسم الاحتفالات ان نقول إن مرور اكثر من 40 عاما على الحرب جعل مسارها ووقائعها الأساسية معروفه ومتفق عليها سواء من مصادر طرفى القتال المعتمدة أو من مصادر خارجية موثوق في جديتها، لقد بدأت الحرب بإنتصارات غير مسبوقة ربما تكون الاولى في تاريخ الجيش المصرى على إسرائيل، تم عبور قناة السويس على اكثر من محور في زمن قياسى وبخسائر بشرية ضئيلة جدا قياسا بالمتوقع وتم تحطيم كل نقاط خط بارليف عدا نقطة واحدة عند بورسعيد تم تطويقها وخلال الايام الاولى ظهرت فاعلية شبكة الدفاع الجوى المصرى وتكبدت اسرائيل اكبر خسائر جوية في تاريخها وتوغلت القوات المصرية لمسافة تصل إلى ما بين 10 و12 كيلو مترا في عمق سيناء بكفاءة وثقة وحقق الجيش المصرى أول نصر منفرد في معركة مدرعات مفتوحة ومباشرة في 8 اكتوبر بسحق اللواء 190 مدرعا الاسرائيلى.

إلا أن الاسبوع الثانى للحرب الذي بدأ بقرار تطوير الهجوم البرى للقوات المصرية نحو خط الممرات من دون حماية أو تغطية من مظلة الدفاع الجوىفى ظل تفوق جوى معروف للطيران الإسرائيلى قد تسبب في خسائر كبيرة جدا في القادة والجنود والمعدات، وكان مفهوم سلفا ان الهجوم المصرى الأول سيعقبه هجوم مضاد إسرائيلى وهو ماحدث بتوغل اسرائيل داخل الخطوط المصرية وقيامهم بعمل عبور مضاد ترتب عليه لاحقا احتلال إسرائيل لشريط من الاراضى على الضفة الغربية لقناة السويس وعدد من القرى ووصول المعارك لنقطة تبعد 101 كيلو متر شرق القاهرة وهى النقطة التي تمت فيها مفاوضات فض الاشتباك لاحقا وسميت باسم «مفاوضات الكيلو 101»

المواجهة العسكرية المباشرة أو الحرب هي كمباراة كرة قدم لها ضربة بداية وصافرة نهاية ونتيجتها تعلن بنهايتها وليس ببدايتها أو لقطاتها المختلفة ولقد انتهت الحرب عسكريا في 24 اكتوبر 1973 في لحظة تفشل القوات الاسرائيلية على الضفة الغربية للقناة في دخول مدينة السويس التي تحاصرها بفضل مقاومة نظامية وشعبية صلبة، بالتالى كان الوضع الميدانى عشية وقف إطلاق النار في المجمل ليس في صالح القوات المصرية خاصة أن الهجوم المعاكس الإسرائيلى كان إحدى نتائجه هو حصار الجيش الثالث الميدانى في سيناء .

اللواء محمد عبد الغنى الجمسى فى مفاوضات الكيلو 101 وفض الأشتباك

وتبدأ بعدها مفاوضات عسكرية مصرية اسرائيلية تنتهى بالاتفاق على فض الاشتباك وانسحاب الطرفين من الضفتين مع بقاء وجود رمزى للقوات المصرية شرق القناة، ولقد تم مهاجمة السادات كثيرا بمنتهى الديماجوجية على هذه الاتفاقية باعتبارها تفريط عسكرى خطير كما لو كان لديه خيارات أخرى كثيرة، بينما قوات اسرائيلية مدرعة معتبره كانت موجودة بالفعل على بعد 101 كيلو من القاهرة، ولكن سر هذا الهجوم على السادات هو انه تم التعامى والقرار بالتواطؤ من اللحظة الأولى على النتائج الميدانية النهائية للقتال والتى لا تشير في الحقيقة إلى انتصارنا سواء كان ذلك من السادات أو من خصومه من مراكز القوى أو الانظمة العربية الراديكالية «وقتها، فلقد حرص السادات دائما على التشويش والتضليل بشأن الأوضاع الميدانية في الضفة الغربية المخترقة واصفا ما حدث بأنه عملية تلفزيونية فاستغل خصومه هذا الدجل واصطادوا في الماء العكر وزايدوا عليه واتهموه بالتفريط، القصة إذن تحولت إلى سجال ومزايدة على وضع غير حقيقى من الأصل طرفى السجال والمزايدة فيه يبدأون كلامهم بأن نصر عسكرى قد تحقق وطرف يتهم الآخر بالتفريط فيه .

لقد كان الناتج المادى المباشر لحرب اكتوبر هو فتح قناة السويس للملاحة في 5 يونيو 1975 وقد سبق للسادات في اطار مناوراته السياسية عام 1971 بطرح مبادرة برعاية الامم المتحدة تقوم بموجبها اسرائيل بفتح القناة للملاحة تنفيذا لقرار 242 وهى مبادرة تجاهلتها اسرائيل بوضوح وغرور من موقع المنتصر الغشوم، لكن اثبتت اكتوبر للأسرائيليين انهم يجب وان يتنازلوا وانهم ليسوا في موقع التفوق المطلق التام الذي اثبت نفسه في يونيو 67 ومن ناحية ثبت بشكل قاطع للعسكرية المصرية أنه لا يمكن هزيمة إسرائيل عسكريا بشكل حاسم ومن هنا تلاقت ارادات التسوية السياسية بين الطرفين .

لا يمكن فهم اكتوبر إلا بأعتبارها محطة وسطى ما بين هزيمة 1967 المروعة وبين اتفاق كامب ديفيد عام 1978، ما حدث هو نزع اكتوبر عن هذا السياق وجعله حدثا منفردا بذاته وهو امر يمنع أي حديث جاد أو عقلانى بشأنه. لكن تظل هزيمة 1967 ونتائجها هي الثابت التاريخى على الأرض، هي لحظة الإعتراف العلنى بإسرائيل ليس فقط كدولة بل كقوة اقليمية مهيمنة في المنطقة، معنى يونيو 1967 ونتائجها هي المعيار التي يجب ان يرد اليه الأمور، لقد حدد النظام في مصر هدفه بعد الكارثة في شعار غامض يحاول ان يمهد للناس افق المرحلة اللاحقة وهو شعار «ازالة اثار العدوان»وغموض الشعار كان يعنى ان وقع الهزيمة اكبر من تجاوزها من دون تغييرات جذرية في بنية النظام المصرى بالتأكيد لم يكن مستعدا لها، والحقيقة لم تزل آثار العدوان ولا تزال الهزيمة التي لم تفتح كل ملفاتها بالشكل التي يتناسب مع وقع اثارها المدمرة علينا هي المعيار وهى أوقع حقيقة وهى السيف الأصدق انباء، ولأنها هي المعيار- الهزيمة المدوية المذلة هي المعيار- تصبح حرب أكتوبر انتصارا بالتأكيد في ضوء أداء الجيش المتفوق في الأسبوع الأول .

الأمر اذن ليس له علاقة بالنتائج النهائية للحرب التي لم تكن صدقا في صالحنا، فأكتوبر جدل مصرى إلى حد كبير، اكتوبر هي انتصار مصرى على مصر اكثر منه انتصارا على إسرائيل، انتصار نسبى على هول هزيمتنا المخيف في 1967، انتصار على التردى والبلادة وانعدام الهمة والمسؤولية، انتصار لأننا أثبتنا أن لدينا جيشا يستطيع ان ينفذ خططا ويحقق تقدما ويقارع ويكون أداة قوية في يد الساسة لتقرير المصائر الاستراتيجية، بعد أن أثبتت يونيو 1967 أن ليس لدينا إلا العار، أكتوبر هنا هي ما عناه السادات بالظبط وهو أنه اصبح لمصر درع وسيف، والاحتفال الان «بالنصر» لأربعين عاما هو احتفال بالجيش الذي تصرف وتنظم وقاتل لأول مرة كجيش حديث، وهو أمر له منطقه طالما مازالت مازورتنا النفسية هي هزيمة 1967- بكل أسف وأسى وجزع .

** نشر هذا المقال على موقع جريدة المصرى اليوم فى 5 أكتوبر 2014 بعنوان مختلف

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

يحق لشاب عمره الآن 30 عاما أن يتساءل عن السر في استمرار الحفاظ على 6 أكتوبر 1973 كتاريخ محورى بجانب 23 يوليو. فإذا كانت يوليو قد أسست دولتها ونظامها الراغبين في الاستمرار الأبدى فأكتوبر هى محطة مسلحة من محطات الصراع المصرى الإسرائيلى الذي من المفترض أنه انتهى بإبرام اتفاقية كامب ديفيد وهى الإتفاقية الصامدة أكثر…

Comments

أترك تعليق