هامش واعتذار للثورة السورية

فإعلموا ان لنا جيوشا فى العراق وجيشا فى الشام من الأسود الجياع، شرابهم الدماء وأنيسهم الأشلاء، ولم يجدوا فيما شربوا أشهى من دماء الصحوات ” (1)

كلمات بنبرة صدِئة ميتة ألقاها أبو محمد العدنانى الشامى المتحدث الرسمى دولة العراق الإسلامية تحت مسمى “الدولة الإسلامية فى العراق والشام” والتى ينضوى تحت لوائها بضع عشرات الآلاف وفقاً لبعض التقديرات. كان وعيدُ العدنانى موجها للجيش السورى الحر، وباقى فصائل المعارضة السورية ولكنه لم ينس بين ثنايا الوعيد أن يوصى رجاله بالرحمة عند الفتح والانتصار، وولوج القرى والبلدات، تلك الرحمة بالتأكيد غائبة لدى تلك الأصناف من الوحوش، لدرجة تجعل مأفوناً كهذا يدعوا إليها بينما يهدد خصومة من ذات المعسكر بهكذا لغة.

لا أدّعى فهم تفاصيل المشهد السورى حالياً بعد ان أعرضت عنه أنا وآخرين، إما انكفاءاً على شأننا المصرى الثقيل أو لشدة وطأة المشهد السورى نفسه وتعقيده علينا، أو ربما رخاوةً وانعدام حس التضامن اللازم الذى يستتبعه المعرفة.. لا أعرف.

إلا أننى أعرف جيداً، وذاكرتى الحية بخير، أن ما آل إليه الوضع فى سوريا هو بالظبط ما أراده وسعى إليه منذ البداية ذلك المتوج على عرش العار الإنساني المسمى ببشار الأسد. منذ اللحظة الأولى لإنطلاق المظاهرات السلمية فى سوريا، وأكرر” السلمية”، إلا وكان المجرمون البعثيون القوميون العرب يتحدثون عن إرهاب القاعدة الذى يقف خلف الأحداث ويحركها. منذ اللحظة الأولى ولم يوجد لحظتها إلا حناجر فى السماء.

شهور وشهور، وعشرات ومئات الآلاف يتظاهرون عفوياً من غير ساسٍ يسوسهم، ولم يقابلوا إلا بالقصف الجوى والمدفعى واغتصاب النساء وخصى الاطفال، واقتلاع حناجر المغنين. القتل والقتل والقتل والقتل. شهور وشهور لم نر سوى فلاحين يرقصون كيداً ضد المجرم أبو المجرم حافظ الأسد، ويكيدون كيداً لروحهِ، راقصين مهللين:” يلعن روحك يا حافظ/ يلعن روحك يا حافظ”. ولم يكن الرد إلا القتل والقتل والقتل والقتل، وهتك الأجساد الميتة مادياً، وتحطيم النفوس المحايدة الحائرة معنوياً، وزرع منى الجنون فى الأتباع، والانتحار بالطائفة العلوية، ببسطائها قبل وجهائها، ببساطة التصرف كلا دولة و ليس حتى كدولة مجرمة كما اعتادت و قررت تدمير سوريا للأبد.

لم تكن غاية عوام السوريين المنتفضين إلا تنحية المجرم ابن المجرم، لصالح إحدى أراجوزاته، إجراء محض رمزى، لأنهم يعرفون أن ذات النظام مستمر لحين، محض نصرٍ معنوي، يحفظ الكرامة. لكنه لا يساوى قهر السنين، ولا يعادل الأنفس والنفوس الميتة فعلاً ومجازاً، لكنه كان مجرد خطوة تحمل ضوءا ما فى آخر هذا السديم، ولكن المجرمين أبوا وساروا فى غيّهم، ووفر لهم عمليا غطاءاً اقليمياً من انصاره حلفائهم ، ومن خصومه خصومهم، بين إيران الساعية لتثبيتهم بأى ثمن، وبين استثمار سعودى أسود فى الحروب الأهلية، وبمباركة ورعاية إمبريالية، لا ترى فى سوريا ناقة أو جملاً او نفطاً او غازاً.. فقط لحوم من البشر، تتساوى لديهم فى قيمتها مع قمحهم ولبنهم المسكوب فى المحيطات الأطلنطية والهادئة.

بعد سنة من الإنتفاضة والذبح، رأينا امرأة سورية تصرخ ماهذا يا الله.. أين أنت يالله .. أين أنت يا الله .. حتى أتاها جند الله من جبهة النصرة حاملين لواء الموت، أسودٌ جائعة كما قال متحدثهم الرسمى المأفون ليوجهوا نوعا من الحيوانات هم أوضع من الضباع. لن ألوم هذه المرأة، ولن ألوم شباب ومفجرى انتفاضة سوريا، فقد كانوا يحاولون النهوض من عدم العدم فى بلاد تجرّفت وتحطمت فيها المعانى حتى أننا فى مصر الاستبداد والفراغ كنا لهم مثالاً وضّاحاً فى الحرية والتسيس والحركة. لن نلوم من تجرأ على طلب النجاة لنفسه، بعد ان سعد بنا و شاهدنا على ضفاف النيل نسقط مبارك وشاهد التونسيين يسقطون بن على الذى هرب.

لكن هل ينجو المجرم بشار الأسد ابن المجرم حافظ الأسد بخطته القائمة على تطبيع العدم والجنون حالا؟ هل ينجح البعثيون فى خطتهم تثبيت حكمهم على بعض اجزاء من سوريا بإفناء باقى سوريا وخلق ذلك الفراغ الهمجى الذى لا يملأه الا مجانين القاعدة، لقد أتت داعش والنصرة لتجلس على تل الخراب وليعلنوا أنه لا عراق ولا سوريا، بل ساحات للقتل ومدن دويلات يختفى فيها أى مظهر من مظاهر الدولة الحديثة ، ويرتد فيها الوضع لصورته البدائية المتوحشة بعد أن أعلن مجرمو ” حداثة الأقلية البعثية “، أنه إما نحن بأحذياتنا فوق أنوفكم وخصاكم، أو الموت.. يقيناً سنعجزعن الاختيار إذا أجرينا مسابقة لتحديد من الأجدر بتاج الإنحطاط .. القوميّون العرب، أم الإسلاميون .

كل هذا ولا نجد للمشهد الحالى مخرجاً، حتى الاحتلال الأجنبى صار يتعفف عن السباحة بجسده فى هذا المشهد.. لكن والله سينجو السوريين حتى وان لم تنج سوريا الكيان، لأن هذا هو العدل. والبشر مهما بلغوا طوراً فى الإنحطاط، يبتغون العدل وإن وهنوا لحين طويل، وهامشى هذا ليس موجهاً الى المنكوبين فى سوريا والمنافى بل موجها الى ذاكرتنا نحن فى مصر بشأن مأساتهم. والتى فى غمرة تقلبات مشهدنا المصرى راحت تنسى البعض ما فعله البعث بسوريا تاريخاً وحاضراً آنياً، فحولت بعضهم الى نوع من المسوخ.

** نشرت هذه المقالة فى موقع ” قل ” فى سبتمبر 2014

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

” فإعلموا ان لنا جيوشا فى العراق وجيشا فى الشام من الأسود الجياع، شرابهم الدماء وأنيسهم الأشلاء، ولم يجدوا فيما شربوا أشهى من دماء الصحوات ” (1) كلمات بنبرة صدِئة ميتة ألقاها أبو محمد العدنانى الشامى المتحدث الرسمى دولة العراق الإسلامية تحت مسمى “الدولة الإسلامية فى العراق والشام” والتى ينضوى تحت لوائها بضع عشرات الآلاف…

Comments

أترك تعليق