لا شيء في مصر.. كل شيء في مصر

هل يمكن المجازفة بالقول إننا أمام منعطف جديد وجدي تمر به مصر؟ الإجابة تحتمل القول بنعم ولا، فمثلما لا شيء كبير يحدث بشكل مادي في مصر، لكن شبح كل شيء أصبح وارد الحدوث أيضًا، ومثلما القوى المادية الذاتية معاقة تمامًا عن الفعل والمبادرة بل والتفكير، إلا أن الشرط الموضوعي يسير في الاتجاه المضاد كما لو كان للتاريخ عقل وكلمة تنفذ إرادتها على الموات والسكون لتعلن بها بداية انتهاء حقبة رغما عن أنف «اللاشيء»، لن أعتبر نفسي مبالغًا لو قلت إن كل المستويات المدنية الرمزية في مصر قد أصابها الانحطاط أو العطب أو الحصار أو الإهانة في السنوات الأخيرة: مؤسسات وتنظيمات وإعلام ومجتمع مدني وجامعات وأحزاب وحياة مدينية، لم يعد شيء يمكن ضربه، لكن ثمة شروطًا موضوعية جديدة.

نهاية تفويض 26 يوليو 2013 

لم أر في 3 يوليو 2013 إلا إزاحة لمحمد مرسى عن السلطة وبصيغة انتقالية ضبابية، التأسيس الحقيقي للنظام الحالي كان في 26 يوليو 2013 وبمخاطرة سياسية شجاعة تمت قبلها بيومين فقط طلب فيها وزير الدفاع وهو بكامل زيه العسكري مرتديًا نظارة سوداء تكاد تصطدم بالبيريه العملاق من المواطنين النزول إلى الشارع لتأييد إجراءات استثنائية حازمة يتعهد بها هو نفسه بصفته العسكرية.

لم تكن جماهير 26 يوليو بحجم جماهير 30 يونيو بالطبع، ولكنها كانت غطاءً شرعيًا كافيًا جدًا لقوات مسلحة موجودة بالفعل على الأرض ودولة أمنية عاد رجالها للعمل بشغف ونشاط، وبطبيعة الحال فإن صيغ التمثيل عبر التفويض هي صيغ بدائية جدًا في تعاقديتها بين طرفي التفويض، فالحاصل على التفويض -خاصة لو كان حاكمًا عسكريًا- ليس ملتزمًا بشكل حرفي بالبنود التي فوض من أجلها، فيتحول التفويض و«الأمر» من أجل محاربة الإرهاب إلى تفويض في عملية الحكم ككل وفي كل الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليس على المستوى الأدنى بل على مستويات لها آثارها الاستراتيجية.

لقد كانت جماهير 26 يوليو هي النخبة الأكثر تطرفًا بين جماهير 30 يونيو، كانت عفوية وغاضبة، وأعطت تفويضًا جاء ليكمل وضعًا يترسخ على الأرض، وبالرغم من أن جماهير التفويض لم تكن غالبة، إلا أنها انتزعت روح الإرادة العامة في لحظتها وكانت إرادة مثبتة لحكم عسكري محتوم في ظل فشل السياسة وفي ظل أقلية وعزلة الإخوان وجماهيرهم والنفور الغالب منهم، روح الإرادة العامة تلك تبدت في أن السلطة العسكرية اعتبرت أن الشارع الطبيعي معها فكانت مرحبة بالناس في الشوارع والميادين الذين جاءوا تلبية لندائها العاجل، فتم اعتبار أن كل من يسير في شوارع المدن المصرية هو إما مفوض أو مشروع مفوض، وحين كان يتم إيقاف المواطنين في كمائن الشرطة كان التعامل البديهي عنوانه الود والتعاون حتى ولو كان مصطنعًا.

بعد ست سنوات من تلك اللحظة؛ سبتمبر 2019، في محاولة لمنع مظاهرات شعبية شبحية، تقف الشرطة والأجهزة الأمنية، وكمائنهم الثابتة والمتحركة في كل شوارع ومدن مصر لتفتش بشكل عشوائي التليفونات المحمولة لأي مواطن في الشارع وتراجع محتواها، وتقبض عشوائيًا على الآلاف، تلقي القبض على كل إنسان يرفع كاميرا تليفونه المحمول في محيط وسط القاهرة، وفي بث حي يعتقل مواطن مؤيد للسيسي جاء ليصور أمان منطقة وسط البلد وخلوها من أي تحركات معارضة، دائرة الاشتباه اتسعت لتشمل الجميع بصرف النظر عن الجنس أو السن أو الخلفية الاجتماعية، وليس لعناصر «إثارية» بعينها، كل الأماكن خطر عدا التجمع الخامس والضواحي المشابهة، وأصبح هناك وضع أشبه بحظر التجول.

هذا هو إعلان نهاية تفويض يوليو 2013، فاللحظة التي يتطلب فيها حشد آلاف معدودة من المؤيدين الأمنيين إخلاء سكان القاهرة من شوارعها، واللحظة التي يتم التعامل فيها مع كل مواطن مدني يسير في الشارع أنه عدو محتمل، هي لحظة لتدشين سلطة أشبه بسلطة الاحتلال. شرعيتها تتأسس أولًا وثانيًا على القوة العارية، وانتقل شبح الإرادة العامة للجانب المضاد للسلطة وانتهى تفويض يوليو 2013 لتأتي بعده لحظة أكثر قسوة ومذلة وخطرًا وأملًا.

تفويض يوليو 2013 إنتهى فى سبتمبر 2019 فى اللحظة التى أصبح فيها أى مواطن يسير فى الشارع مشروع لمعتقل  عشوائى محتمل

هزيمة ذاتية وانكسار للإعلام العسكري الشمولي  

المشهد الإعلامي المصري الحالي غير مسبوق في ترديه وتأخره، لا يمكن مقارنته بإعلام الستينيات على أي نحو، حيث كان إعلامًا شموليًا ولكن ذا جودة مرتفعة، ولاختلاف الزمن أيضًا، فالإعلام الحالي هو ردة مخيفة عن تراكم بطيء لجهود بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي، بدأت بفتح باب الحوار الهامس داخل إعلام الدولة نفسها، خاصة صحافتها، ثم السماح بصدور صحف المعارضة الحزبية التي راحت ترفع أسقفها بحسب الظرف السياسي متى كان مواتيًا، ثم جاء الاعلام الفضائي والإلكتروني لتتفاعل مع البيئة المصرية بدرجة عالية جدًا من الانفتاح والرحابة، فزادت القنوات الفضائية الخاصة واتسع هامش التعبير فيها، وكذلك الصحف الإلكترونية والمطبوعة ذات الطابع المهني المستقل.

الردة الإعلامية الحالية ليست ردة على إعلام ما بعد يناير 2011 المفتوح تمامًا، بل ردة على إعلام صفوت الشريف ومحمد عبد القادر حاتم، هي ردة على مساحات مبارك والسادات نفسيهما، فلم تشهد مصر في تلك العهود ظاهرة المانشيتات الصحفية الموحدة، ولم تتضاءل مساحة حرية الرأي والتعبير ومخاطرهم للحدود العبثية الموجودة الآن، لقد تمت إعادة تشكيل للإعلام المصري بشكل يدمر تراث ومكاسب وخبرات تراكمت على مر عقود بجهد وعرق الكثيرين، وبغرض واحد هو منع أي صوت مخالف من أي نوع للوصول إلى منابر واسعة الانتشار، وبغرض إيصال رسالة موحدة للمواطن عنوانها: اخشع فالمكان محاصر من كل جانب.

لقد كانت السياسة الإعلامية في السنوات الست الماضية سياسة للإعلام الشمولي في زمن الحرب بامتياز، تقوم على التعبئة المستمرة وتبني آلية ممنهجة لإشاعة الرعب والقنوط وعدم الثقة بالنفس بين المواطنين. سياسية لا تسعى لنيل تأييد المواطن طوعًا وحبًا، بل خوفًا واضطرارًا. سياسة إعلامية لا تعني بالحقيقة في ذاتها فهي لا تريد للناس أن تصدق ما تشيعه، بل تريدهم أن يعجزوا عن تكذيبه وأن يستسلموا لسيل متواتر من الأخبار والمعلومات التي لا تتمتع بأي معقولية يشعر معها المواطن بضآلة حجمه أمام تلك الآلة التي تدار في معامل أجهزة الأمن بعقلية حروب الدعاية السوداء لمواجهة ما تبقى من إعلام جماعة المخبولين المسلمين «الإخوان سابقا».

ويتبدى ما أقوله بالأساس في إعلام التواصل الاجتماعي وكتائب النظام وذبابه الإلكتروني وعالم الواتس أب الموازي، الذي اخترق هواتف عوام الناس ليقدم لهم مادة تبدأ بأسر قائد الأسطول السادس الأمريكي، ولا تنتهي بأقل من الانتصار في معارك عسكرية مع تركيا وإسرائيل مثلًا. لقد قالت حنا أرندت يومًا ما في واحدة من تأملاتها في الشمولية إن الناس تحت حكم آلة الإعلام الشمولي لا تصدق شيء ولا تثق في شيء، ولكنها تخضع له وتردده بحماس، بينما في مجالسهم الخاصة يسخرون منه، لكن مع إبداء الإعجاب بالحاكم الذي يملك تلك الآلة، وإن حدث وثبت رسميًا كذب بعضًا من تلك المعلومات يقوم الناس بتهنئة ذكائهم لأنهم يعرفون الحقيقة من البداية، وفي نموذجنا المصري صاغ القائد عبدالفتاح السيسي الإطار الفلسفي لهذه السياسة ملخصها بقوله إن معرفة الحقيقة لا يعني تصديقها.

لقد حطم النظام الحالي أهلية الإعلام من حيث المبدأ، منع عنه منطق استمراره، كمن يجرد الجندي من سلاحه ويطلب منه القتال، إن مستوى الطاعة المطلوب من قبل هذه السلطة، استثنائية الاستبداد، لا يمكن توفيره بإعلام عنوانه الوحيد هو التهديد وترويع الناس والإعلان المستمر للحرب على مفهوم الكرامة، لا يمكننا أن ننسى مشاهد لا حصر لها لإعلاميين يدينون المواطن لأنه يأكل كثيرًا، ووصل الأمر بأحدهم أن قال إن عددًا كافٍ من التمرات مع شربة ماء كافية للإفطار في رمضان.

الظروف هذه أصبحت الآن قاعدة مستمرة لسنوات وليست استثناءات، وبكل المقدرات المالية العملاقة لشبكات إعلامية مملوكة حصريًا لرجال أعمال يفتخرون بالعمل كواجهة للأجهزة الأمنية، وبكل أشكال المنع والقسر والتنكيل بكل صوت مخالف، والتي وصلت لحجب مواقع الكترونية، رياضية وفنية أحيانًا. وفي هذه الظروف يأتي عدد من الفيديوهات القليلة لمحمد علي، وهو شخصية كانت مجهولة تمامًا لدى الرأي العام قبل ظهورها، وتسبب حالة من الانتشار والجدل العام يصل إلى حد تجنيد كل المقدرات الإعلامية للدولة للرد عليها، بل وتنظيم مؤتمر سياسي حاشد في أيام قليلة ليرد السيسي بنفسه على ما ذُكر في هذه الفيديوهات التي انتشرت فقط بسبب إقبال الناس عليها بدون مجهودات ترويجية تذكر. أي إخفاق هذا لإعلام شمولي ظن أنه قادر على تركيع الناس تمامًا وشلهم تمامًا عن النقد والتفكير والتعبير الحر؟!  حتى لو كان نقدًا للمنتخب الوطني لكرة القدم أو لفيلم سينمائي. لا شك أن ما جرى في الأسابيع الماضية هو كسر لخيلاء هذا الجبروت وتصوره أن كل شيء وأي شيء تحت السيطرة.

لمدة تقارب أسبوعين فشلت ترسانة أعلامية حصرية فى مواجهة مجموعة من الفيديوهات

الوعي بعالم جديد تأسس 

عالم الاستثناء الذي خلقه الانقلاب والتفويض شن حربًا عنيفة وحقيقية على قوى مهمة من قوى الماضي، واتخذ قرارًا استراتيجيًا بسحق أهمها وهي جماعة الإخوان المسلمين، وذلك بعد تحولها في أعقاب تفاعلاتها المدمرة مع حدث بحجم 30 يونيو إلى جماعة المخبولين المسلمين. خلق هذا القرار وتبعاته حالة عامة من الخوف والهلع والرغبة في الارتداد إلى أي صيغة تحفظ أمان البلاد والعباد وبقاء كيان الدولة مهما كانت تكلفة وتضحيات تلك الصيغ، وترتب على ذلك تنازلات رهيبة قدمها الجمهور الداعم للحكم العسكري -وهو النسبة الغالبة من الشعب- من حريته وكرامته ومعرفته وتشاركيته مع النظام.

 لقد كان ثمن التفويض والاستثناء فادحًا بالفعل، وبينما راح الناس يختبئون من أطياف الماضي المخيفة  والمخبولة ويتابعون الحرب على أشباحها، راح نظام الاستثناء يستغل اللحظة ليؤسس لأركان حكمه وتقاليد عمله الجديدة وسط حالة من الغفلة والتوهان والاستسلام الجماهيري، ففّعل إجراءات اقتصادية عنيفة اليمينية سببت الإفقار المهين لعوام الناس، وراح يؤسس لمشاريع استراتيجية طويلة الأمد في غفلة عن أي جدل أو مراقبة، ليسمع الناس أخبارًا مفاجئة من نوع «ألف مبروك سيكون لمصر عاصمة جديدة»، وربط اقتصاد مصر ومستقبلها بتوسع عقاري غير مؤتمن الجانب. تضاءلت في ظله نسب البطالة، لكن بدون رضا أو يقين بمستقبل أفضل.

إن أحد إشكالات نظام الاستثناء الحالي هو تناقضه النظري العميق مع ذاته ودوره، فأي نظام للاستثناء لا يستقر إلا بجعل استثناءه قاعدة مستقرة للحياة يرتضيها الناس ويعيشون في ظلها كوضع طبيعي مقبول، لكن في نفس الوقت يعي هذا النظام أنه لا يستطيع اتخاذ إجراءات اقتصادية واجتماعية أمنية تتسم بالقسوة والقسر إلا باستمرار حالة الاستثناء تلك، ليصبح هنا السؤال هو ما المدى الزمني المناسب لإتمام هذه المرحلة؟ كم عدد من السنين لن يعلو فيه صوتًا على صوت المعركة؟، وماذا بعد إتمام المهمة؟، هل سيستمر رجال الاستثناء والتفويض في مكانهم في مرحلة الاستقرار والوئام القسري التواطئي؟ أم أنهم سيصبحون أوراقًا محترقة للحظة سيتم لفظها لاحقًا؟. بمعنى أصح، هل يخشى نظام الاستثناء الحالي من الاستقرار؟ هل يخشى من عودة الحياة الطبيعية؟ الحياة الطبيعية ببساطة مفرداتها وانخفاض سقف طموحاتها كعودة الترفيه؛ السينما والدراما التلفزيونية شبه الحرة وعودة جماهير كرة القدم إلى الملاعب.

أعتقد أن حسم إجابة الأسئلة السابقة لا يأتي إلا بتقييم أداء نظام الاستثناء في فترة الإطلاق الغشوم ليد سلطاته، هل كان فعالًا ناجعًا من أجل المصلحة العليا؟، أم أنه استخدم حالة الاستثناء كمطية لما هو أدنى وأوضع من ذلك؟، وهل ست سنوات ليست بالكافية؟، هل سيتم مطاردة أشباح الإخوان وجثثهم وأجسادهم المنفية إلى ما لا نهاية؟

الظاهر لي أن نظام الاستثناء الحالي تتضاءل حجج الاقتناع بأدائه بمرور الأيام، تتآكل الثقة فيه، وتخرج أصوات تطالب بكشف حساب ما، أصوات تعي أن في السنوات الست الماضية تأسس بالفعل عالم جديد له رجالاته وشبكاته ومصالحه ومغانمه، وبينما يطالب أحمد موسى عبر برنامجه التلفزيوني عامة الناس بالإفطار على تمر في رمضان، يوجد في نفس ذات اللحظة من يأكل الشهد ويراكم أرباحًا لم يسمع عنها أحد من قبل، وأن المبدأ الميري القائل بأن السيئة تعم والحسنة تخص أصبح مبدأ وطنيًا، فنال الشعب من عموم السيئات وخصت الحسنات أهل الميري.

من هنا أتت محورية شخص المقاول محمد علي وسرعة ونفاذ تأثيره على الرأي العام. فهو ليس ابنا لعالم الماضي بإخوانه وثواره وفلوله، بل هو ابن بار للحظة الراهنة. يأمل فيها ويتكسب منها، وهو ليس عابر سبيل أو مواطن مطحون يصرخ في البرية، بل مليونير شاب عمل مع الجيش ومؤسساته ومنفذ مباشر لمشاريعه، وبمعايير هذا الزمان هو رجل الحلقات الضيقة للنظام. موثوق ويوكل إليه أعمال ومقاولات بالإسناد المباشر.

من هنا فلكلمات محمد علي أهمية، فهو رجل من رجال النظام، وهو من أهل الحيثية لا من أهل الجعجعة، وتمرده يعني أن حتى المحظوظين من الفسدة صاروا هم أيضًا يشتكون ويتذمرون، بل ويخاطرون بحياتهم وحياة أسرهم، مما يعني أن نظام الاستثناء الحالي ليس فقط فاسدًا وسريًا وحصريًا، بل أصبح أيضًا عاجزًا عن إدارة الخلاف داخل أصغر دوائر مصالحه، وأن ثمة مشاكل عميقة في دورة رأس مال النظام وصلت حد أن يضحي مليونير بملايينه فقط ليفضح ما يجري ويحرق كل مراكبه. أي أن هذا المحظوظ صار يؤمن بأن لا أمل ولا مستقبل له مع هؤلاء، وهو بالتأكيد لا يتحدث باسمه فقط بل باسم شبكة أوسع من المتضررين، وهنا يصبح النظام نظامًا فاشلًا وضعيفًا لا يؤتمن فضلًا عن كونه فاسدًا وسريًا وضيق الدائرة، ومن هنا فقط بدأ انقلاب المزاج الشعبي.

عالم المقاول محمد على عالم جديد يتجاوز ثورة يناير وسردياتها وصدماتها

بداية جديدة لحرب مريرة

بالرغم من أن حصيلة لحظة «الإدراك» الحالية هي تسييد حالة من الرعب المذل في الشارع المصري؛ آلاف المعتقلين العشوائيين، إعادة اعتقال المعتقلين موضوعيًا بالفعل كعلاء عبد الفتاح، القبض على محامين من داخل سرايات النيابة كمحمد الباقر، عودة التعذيب البدني كسلوك عقابي للمعتقلين كما في حالة إسراء عبد الفتاح وآخرين، خلق حالة من الإهانة اليومية والنظر إلى السير في الشوارع كمخاطرة محتملة، إلا أن هذا يظل ثمنًا أقل فداحة بكثير من أثمان كان يمكن دفعها لو كان حراكًا جماهيريًا حقيقيًا قد حدث، لأنه في حال حدوثه كان النظام قادرًا أولًا على سحقه بمنتهى الإجرام، ثم خلق حالة من الاصطفاف حوله من داخل الطبقة الوسطى المذعورة من الجماهير والمستسلمة للمنطق العسكري كضامن وحيد للحفاظ على الاستقرار الأهلي كما يفهموه.

لكن لحظة الإدراك في حد ذاتها تحول موضوعي وإعادة لرسم المعسكرات بوضوح تخلق معها شبحًا يجعل من الوضع في مصر يحتمل اللا شيء والكل شيء في ذات اللحظة. فإدراك انتهاء مرحلة تفويض 26 يوليو 2013 إلى غير رجعة يحاصر النظام والشعب في ركن محدود الخيارات. الخيار الأول فيه هو القيام بعملية احتواء وتهدئة وإظهار وجه متعقل حتى لو عبر إجراءات شديدة الرمزية والبساطة، والخيار الثاني هو المزيد من تعميق الأزمة واستعار الحرب ضد أي تهديد محتمل حتى لو كان تافهًا.

لا أود أن أكون متشائمًا، ولكنني أرى أن النظام الحالي لا يؤمن بالتفاوض والمساومة وأنصاف الحلول، وإلا لكانت مصر منذ فترة في مكان أفضل مما عليه الآن، بل أن النظام يرى في بعض الأصوات التي تخرج من هوامشه الموثوقة، والتي تطالب بانفتاح نسبي محكوم أنها أصوات ساذجة حسنة النية وقليلة الخبرة. الإشكال المربك أيضًا لهذا النظام هو أنه لا يؤمن أيضًا بالنصر التام وقبول استسلام أعدائه. فهو نظام يحب أن يحارب أشباح ضحاياه. لا يحيا بدونها ويحييها وهي ميتة. فمن روحها الفانية معنى وجوده الوحيد.

 لذا سيأخذ النظام في ظني منحى أكثر تطرفًا، حيث سيعامل الشعب كعدو محتمل دائم وسيجعل من الاصطفاف الطبقي والاجتماعي عنوانًا واضحًا لمعناه كنظام حاكم، سيبدو معه أشبه بقوة استعمارية تستند بشكل عضوي وتبادلي مع برجوازية ضواحي المدن الكبرى كنسيج يشبه رابطة المستوطنين الأجانب بقوات الاحتلال، خاصة مع إدراك أن هناك أساسًا اجتماعيًا وطبقيًا هذه المرة لحالة التململ. فالعقلية السائدة تميل إلى السحق التام للخصم حتى النهاية، وإلى الاعتقالات العشوائية الدوارة، وربما إغلاق لاحق لمواقع التواصل الاجتماعي مع تحويل حيازة التليفون المحمول إلى تهمة موضوعية باعتبارها وسيلة تواصل غير خاضعة للسيطرة التامة.

هذا ليس قدرًا وليس حتميًا وبالطبع ليس ضروريًا، لكن هكذا كانت خبرتنا في السنوات الست الأخيرة. في البداية كان يُنظر إلى هذا النهج كعلامة قوة لنظام لم تستقر أدوات حكمه بعد، لكنه الآن ومع الوقت أصبح يُنظر إليه كطغيان غير مبرر. إن هذا القمع المأفون داخل بلد كبير بحجم مصر يضع لنفسه هدفًا لا يمكن تحقيقه بالفعل، وهو إسكات وإخراس الجميع طول الوقت وللأبد، وهذا مستحيل نظريًا وعمليًا  ولن يولد إلا انتفاضة عظمى صدامية طال الزمان أو قصر.

عالم ما بعد 20 سبتمر 2019 أكثر شراسة فى مواجهة المعارضين السياسيين .. والحكم  على زياد العليمى وأخرين بسجن خمسة سنوات على دون تهم تقريبا

حتى الآن.. لا أرى نورًا فى نهاية النفق

الجيوش لها دور في البلدان المتخلفة، بل والمتقدمة، في حال اختلال أسس استقرارها، وهو الحفاظ على النظام الاجتماعي. الحفاظ عليه حتى لو استدعى الأمر الشروع في إصلاحه وتغيير تركيبته كما فعل الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952، فلقد كانت مهمة الضباط الأحرار مزدوجة، وهي الانحياز لأغلبية الشعب وتحييده في نفس الوقت بالشكل الذي يسمح بالحفاظ على أسس النظام الاجتماعي القديم بأقل تكلفة ثورية، وذلك في أعقاب جرس الإنذار العنيف الذي عبر عن نفسه في انتفاضة حريق القاهرة  الشعبية في يناير 1952.

وما يحدث الآن هو أن الجيش يساهم بجهل غشوم في تعميق الأزمة الاجتماعية في مصر، وتسيد الاغتراب المعنوي والمادي للفئات الاجتماعية الأوسع عددًا في مصر، بل والاستثمار في خطاب مفاده أن الجيش هو الحامي المادي لمصالح الطبقات المهيمنة لذا فعليها أن تخرس مقابل تلك الحماية، وذلك في الوقت الذي تتسع فيه غربته عن فئات الشعب الأوسع، فإذا زاد على ذلك سوء الإدارة وسريتها واستعلائها شبه الاستعماري يصبح الجيش عبئًا على البرجوازية الإمعة، وليس سندًا لها، وفي نفس الوقت وبالمرور التدريجي للزمن يصبح خصمًا لشعب، لا يزال هو المشكل للقوام المادي للقوات المسلحة، وذلك بإرادة لا تزال حرة عبر الخضوع الطوعي المنتظم للتجنيد الإجباري. فما زال هذا الشعب هو السيد على شرعية الجيش شاء من شاء وأبى من أبى، وكل ما سبق يهدد الاجتماع المصري الحديث على كل عيوبه بالعطب والموت في ظل غياب مشروع وطني جديد يتجاوزه أو ينقله إلى الأمام.

لذا، ففي اللحظة الحالية ليس هناك ما يمكن فعله، لكن هناك ما يجب تجنب فعله. الحوار والهدنة وإنهاء الخصومات الفاجرة ميل عقلاني طبيعي في ظرف دقيق كهذا، لكنه ميل لا يرتضيه هذا النظام ولا ترتضيه طبيعته القلقة العصابية التي تدفع بالبلاد إلى مزيد من الأزمات، لكنه شرط لازم للحفاظ على مصر ومستقبلها. وفي كل الأحوال فإن تجنب الانتفاضة الاجتماعية في اللحظة الراهنة في مصر أمر بالغ الأولوية، لأن عنوانها حال اندلاعها سيكون الغضب والانتقام، ولن يؤدي سوى إلى تقوية النظام الحالي، وصَف قطاعات أوسع من الطبقات الوسطى المرتعدة خلفه في ذلة وخنوع أشد مما هم عليه الآن خوفًا من الجماهير الفقيرة الغاضبة، والتي في غضبها هذا قد توقظ نزعات أكثر يمينية وفاشية داخل قطاعات من الكتلة البرجوازية اليمينية بشكل يعطي غطاءً لما هو أخطر.

وما هو أخطر هو الانزلاق لاستخدام العنف المنفلت من قبل الجيش ضد القطاعات الأوسع من الشعب بشكل قد يدمي جسد مصر إلى الأبد ويهدد صيغة اجتماعها العام من دون وجود صيغة بديلة متماسكة له، فتكون النتيجة هي الفقدان التام للثقة في الجيش من قبل جماهير واسعة في مصر وفقدان الجيش لتصوره عن نفسه كجيش وطني، وهذه مسائل تكلفتها الاستراتيجية عالية بما لا يتصوره ذوي الآفاق الضيقة والخيال المصمت.

فلنؤجل اختبار إرادة الصراع لما بعد الحوار، وإذا كانت سوريا هي الكابوس الحاضر في الأذهان، فللأسف مصر أصبحت على أول هذا الطريق، لأن تفخيخ المجتمع وإشاعة حالة من انعدام الثقة بين مكوناته، والخوف من الخوض في أي جدل جاد وصادق خشية انفجار الوضع، وإبقاء الأمور هكذا لزمن لطويل لن يفضي إلا إلى انفجار مفاجئ سنجهل جميعًا عناصره ودوافعه، ولعل ما حدث في الشهر الماضي مؤشر على ذلك، حيث «اللا شيء» هدد «كل شيء».

على القوات المسلحة ألا تنزلق إلى مستنقع الممارسات الاستعمارية الطغيانية التي لن تؤدي في النهاية إلا إلى جلب الاستعمار الأجنبي فعلًا. القوات المسلحة المصرية هي تجلي لإرادة سكان مصر في العيش المشترك، ووجود قوة تحمي هذا العيش المشترك. وهذه الإرادة أقوى من قوة الحماية تلك، فمصر ليست موحدة بقوة السلاح، بل بإرادة المصريين الحرة في الوحدة مهما بدا غير ذلك أو ظن البعض أن المصريين قطعان تسير بالعصي والسياط.

وعلى جانب آخر، ليس للمعارضة الديمقراطية المصرية الآن هدف وسط هذا العته سوى النجاة، فمن زاوية هي ليست طرفًا فاعلًا في أي مما يجرى إلا كضحية لمآلاته. فالنظام أصبح يستخدمها كوسيلة إيضاح مهدورة الحرية والكرامة أمام جماهير لا تثق بها ولا تدعمها. المعارضة المصرية كطرف مهزوم تاريخيًا بهزيمة ثورة يناير، ليس لديه ما يقدمه سوى تجنب القمع أو الصمود أمامه بجبهة عالية مرفوعة مع محاولة اللحاق باستحقاق المراجعة والنقد الذاتي المتأخر جدًا، والذي بدونه لن تصبح إلا مجرد جسد لا دور له سوى تحمل ضربات السياط في مشهد تعذيب مستمر.

هنرى والاس نائب الرئيس الأميركى

 لا تزال أمام القوى المدنية المصرية فرصة للوجود على أسس سليمة تشتبك مع الواقع كقوة مادية ولا تعني بالاشتباك السياسي اللحظي المستمر، كما لو كان كل شيء طبيعيًا وكل المواقع بديهية. فتحت السياط والملاحقة والمطاردة والإدانة المستمرة لا يزال هناك مسؤوليات وطنية، لأنه ببساطة لا يوجد من يضطلع بها غيرها، ولكنها في ذات الوقت لن يمكنها القيام بذلك إلا بعد مراجعات طويلة ومرهقة.

لقد أيقظ النظام الحالي نزعات العدوانية في المجتمع مستفيدًا من كارثة تحول جماعة الإخوان المسلمين إلى جماعة مخبولة مما أفضى إلى تغليب قيم الشراسة والاستخفاف المتعمد بالنزعات العقلانية واعتبارها دليل ضعف ورخاوة، فتم تقديس القوة والسلاح وقيم العتي والتجبر.

إن مسؤولية النظام الحالي الذاتية عن الوضع البشع والمهين الذي آلت إليه مصر مسؤولية كبرى وغالبة بالرغم من صعوبة الظرف الموضوعي وتعقيده على الجميع وتشاركية مسؤوليته، لقد قال نائب الرئيس الأمريكي هنري والاس يومًا إن الخوف هو مصدر كل الأخطاء، ومن أسر الخوف تتصرف الأمم العظيمة كوحوش محاصرة في ركن لا تفكر إلا في البقاء، ومصر الآن غارقة في مخاوفها تحت قيادة نظام خائف من المصريين الذي نال منهم في لحظة ما تأييدًا لم يلقه نظام من قبل.

على هذا الهراء أن يتوقف.

** نشرت هذه المقالة فى مدى مصر يوم 29 أكتوبر 2019

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

هل يمكن المجازفة بالقول إننا أمام منعطف جديد وجدي تمر به مصر؟ الإجابة تحتمل القول بنعم ولا، فمثلما لا شيء كبير يحدث بشكل مادي في مصر، لكن شبح كل شيء أصبح وارد الحدوث أيضًا، ومثلما القوى المادية الذاتية معاقة تمامًا عن الفعل والمبادرة بل والتفكير، إلا أن الشرط الموضوعي يسير في الاتجاه المضاد كما لو…

أترك تعليق