شاكوش ورفاقه .. إيلون ماسك لن يعرف حلمي بكر

الأمر بسيط جدًا ولكنه تطور معي بسرعة في ساعات قليلة، استمعت إلى أغنية بنت الجيران، وهي أغنية عاطفية لطيفة تجذب الأذن وتلعب على وتر الانتقال السريع والحاد بين قرار عمر كمال الدافئ وجواب حسن شاكوش العنيف، وهي من كلمات مصطفى حدوته وتوزيع إسلام ساسو…عادة حين تعجبني أغنية أبدأ في البحث عن بقية أعمال أصحابها وتتبع تاريخهم، فاكتشفت أن حسن شاكوش كان من ناشئي النادي الإسماعيلي وكان يلعب في مركز المدافع المساك، وسُمي بشاكوش نتيجة طوله الفارع وعنفه الشديد مع المهاجمين وعدم سماحه لهم بالمرور، متخذًا من حمزة الجمل قدوة، وكانت تلك المعلومة سببًا إضافيًا لتتبع حسن شاكوش بحماس أشد، كوني مشجع قديم للنادي الإسماعيلي.

وفي إطار بحثي تذكرت أن لي سابق معرفة بحسن شاكوش، فهو صاحب مهرجان أشكرك أوعدك الذي كان ملء السمع والبصر عام 2013، وتحديدًا في فترة حظر التجوال التي صاحبت ما بعد مذبحة رابعة، حيث انتشر تحدي أشكرك أوعدك كنوع من انواع التسلية أثناء الحظر، لشباب وأطفال يطلقون فيديوهات محاكية وراقصة للمهرجان بملابس المنزل وبكاميرات متواضعة، وصلت إلى 25 ألف فيديو تبدأ بجملة خش ياشاكوش يا جامد ليدق على رؤوسنا حسن بشاكوشه العنيف، ويرقص على إيقاعه الأولاد بشكل أعنف. ذكرى لطيفة بشكل استثنائي لأيام كئيبة بشكل استثنائي حفرها العنف في وجداننا.

ولمن لا يعرف، فمهرجان أشكرك أوعدك هو محاكاة مُحبة ووفية لأغنية بنفس الاسم للصعيدي الراحل محمد العجوز ابن نجع هلال الإدفاوي، والذي يشاع أنه غنَّاها غرامًا وهيامًا في الفنانة ليلى علوي. أكثر ما أحب في هذه الأغنية التي شداها الراحل العجوز مستخدمًا لحن أغنية قولي حاجة لعبد الحليم حافظ هو تجليه في عتاب المحبة قائلا لها: أنا أشكرك I thank you أنا أشكرك My love ، بصوت صعيدي متحشرج وإنجليزية بلكنة مصرية أتحدث أنا بها شخصيًا بكل فخر.

توفي محمد العجوز عام 2010 في حادث سيارة مأسوي في أسوان لينضم إلى قائمة المطربين “الشعبيين” الذين تختطفهم الطرق السريعة المصرية، فيصاب محبوهم بالصدمة والذهول، كي تتأسس أسطورتهم لاحقًا، كما حدث في التسعينيات مع الراحل رمضان البرنس صاحب موال الصبر الشهير، الذي ابتلعت سيارته أحد ريّاحات الدلتا بينما كان بصحبة أسرته في حادث مأسوي شجنت له جميع محطات ميكروباصات مصر، وحزنت في حداد شعبي لم يجد طريقًا للوسائط الرسمية.

محمد العجوز ورمضان البرنس رحمة الله عليهما كان رحيلهما فاجعة شعبية كبيرة لم تشعر بها الطبقات الوسطى والعليا المصرية

إيلون ماسك يدخل المشهد

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فأغنية بنت الجيران التي تجاوز عدد مشاهداتها الـ 70 مليون في شهرين فقط، تم اكتشاف أنها في مركز أعلى على قائمة الأكثر استماعًا على تطبيق الساوند كلاود، متخطية أغنية غناها الملياردير الأشهر في غرابة الأطوار وتبني الاختراعات الجديدة إيلون ماسك.

في هذه اللحظة يبدأ التعاطي مع أغنية شاكوش بشكل مختلف بعد أن جاورت أغنية أحد أغنى أغنياء العالم، لتتحول لدى كثيرين من أفندية الطبقة الوسطى من أغنية “شعبية لطيفة” أو “فن هابط نرثي لحالنا منه” إلى علامة جودة ودليل وصول إلى العالمية، بعد ظهورها في منشور لإيلون ماسك نفسه.

لن أزيد وأطيل في بؤس المعيار، نعرف تمامًا أين ينتهي تمامًا مزاج الطبقة الوسطى المصرية الدوني، الذي يعتبر أن العالمية معيار للفخر بصرف النظر عن المحتوى، وكيف يمكن أن تنتقل أغنية من موقع الذم وبكاء الأطلال على الفن الأصيل إلى مصدر فخار وعزة، لأنها ظهرت في قائمة نشرها أحد الخواجات المهمين، تمامًا كعلاقتهم الملتبسة بالأدباء والأكاديميين المصريين الذين يمكن أن ينالوا اللعنات والسباب، بل والرغبة في الاجتثاث بسبب آرائهم.

ولكن سيتحول الأمر 180 درجة إذا فازوا بجائزة نوبل أو الأوسكار، ويتم التغاضي تمامًا عن محتوى أعمالهم، كما تم مع صاحب الأصول المصرية رامي مالك، حين فاز بجائزة الأوسكار بعد تجسيده شخصية الراحل العظيم فريدي ميركوري المثلي، والذي تبادل أثناء الفيلم العديد من القبلات الساخنة مع عدد من الرجال. لربما تم رجم رامي مالك بالمنجنيق حال استكمل حياته في قرية أهله في سمالوط بالمنيا، ولم يهاجر طفلًا إلى الولايات المتحدة وقدَّم لاحقًا في شبابه مقطع على اليوتيوب بنفس المحتوى، ولكن باللغة العربية.

بالطبع ليس كل أبناء الطبقة الوسطى المصرية بهذه الدرجة من “المرونة”، فسيظل القوام الأساسي منها يسب حسن شاكوش انطلاقًا من كونه “شاكوش” بالأساس ولم يغير اسمه إلى ممدوح مثلًا، مثلما غيَّر عبد الحليم اٍسمه من شبانه إلى حافظ، سيظل يزعجهم طبقة صوته الشعبية العامية، ويتحسرون على زمن الفن الجميل وقت كان محمد الوهاب يغني “فيك عشرة كوتشينة في البلكونة.. كلت بولد آه يا حاللولي” نافين عن شاكوش وسم الرقة والعاطفية حين يقول “دوّبتي قلبي بخطوة من رجلك، سحبتي روحي سابتني وراحتلك”.

الأمر لا علاقة له بالمحتوى على الإطلاق بل بتعقيدات يطول شرحها تتعلق بشفرات طبقية واجتماعية مركبَّة، يختلط فيها السمت ودرجة نضارة البشرة بهوية اللهجة المحلية ونوع طبقة الصوت وطريقة الملبس، وبالطبع وقبل هذا ختم النسر وصك الرسمية ورضا أولي اﻷمر من جهاز دولة وطبقة داعمة، فنحن حتى الآن لا نعرف بالظبط ما هو الراقي و غير الراقي فيما يسمَّى بالفن المصري سوى معيار تكرار عرضه في الوسائط الرسمية، وبعض من السمت الغربي الأوركسترالي أو الروح التختية الخشبية.

هاني شاكر وحلمي بكر

نحن إلى الآن لا نمتلك، إن جاز ذلك، معيارًا نظريًا أو تقنيًا يقاس عبره مستوى رفعة الفن المحلي ورقيه، إلا بمدلول جاذبيته لأي فئة اجتماعية وتكرار عرضه فقط، ولربما كانت حروبًا أعتى لتُشن على موسيقى المهرجانات، لولا التبني البرجوازي النسبي لها من بعض الفئات الشابة، ومحاولة تماهي بعض أبنائها مع ما هو “شعبي وشبح”، لكن هذا التماهي النسبي لا يعني بالطبع أن تتوقف نقابة المهن الموسيقية عن ملاحقة شاكوش إن لم يكن عضوًا بها، فسيرسل نقيبها العاطفي الشفاف هاني شاكر رجال نقابته ليحصلوا الرسوم من أفراح شاكوش وصحبه، بينما هو متوجه إلى قنوات تلفزيون الدولة في المساء ليغنّي نسيانك صعب أكيد.

النقيب فنان متقاعد هانى شاكر نذر نفسه لمحاربة الفن الهابط

الوضع في تحسن بالطبع قياسًا بالماضي وبزمن سيطرة ماسبيرو التامة على الخيال. كل الشكر للإنترنت؛ فالآن لن يستطيع حلمي بكر أن يمنع حسن شاكوش من الغناء، مثلما تمكَّن لفترة من منع حميد الشاعري في بداية التسعينيات، مما جعله يُصدر بعض الألبومات في الخارج لتأتي مهرَّبة إلى مصر، نتناقلها بأجهزة التسجيل التعيسة ذات الأذنين، فحلمي بكر الآن ليس إلا مجرد نمرة في فقرة كوميديا الفن الأصيل، يأتي بها بعض مذيعي البرامج الخبثاء كي يقدمها بكر وأمثاله على الشاشة، تمامًا كما فعل مع مجدي شطة حين قدم فاصلًا من الصراخ مطالبًا الدولة والشرطة بالتدخل لمنع مثل هؤلاء من الغناء، بينما كان مجدي شطة في حالة ابتسام أبله طفولي، مندهشًا من العرض الأصيل للسلطة البائدة لحلمي بكر.

بينما يتغير تدريجيًا متن الغناء ومعيار جدارته الجماهيرية وتتحول أغاني شاكوش وصحبه من كونها ” أغانٍ شعبية ” كمدلول تحقيري يميزها عن “الأغنية السليمة” إلى كونها “الأغنية” بألف ولام التعريف، وتصبح كلمات بنت الجيران معبرة عن “المزاج العاطفي” لقطاع أوسع من الناس، ستظل شرطة الأخلاق وديناصورات الإذاعة رافضين لما يحدث، مستغيثين بالشرطة والجيش وقضاء مصر النزيه ليضع حدًا لاستمرار مهزلة الغناء بدون تصريح. لن تكف محاولات هؤلاء ولن تكف من خلفهم مساعي طبقات بائدة لا تملك إلا بعض المال وسلطة البيروقراطية، من أجل محاربة كافة أنواع التعبير، حيث عجزت هي عن أي تعبير إلا المنفر منه.

ولكن في كل الأحوال فلا سيدة النادي التي ترثي الزمن الجميل وفي ذهنها وجه وليد توفيق وراغب علامة المستديرين، ولا اللواء مطرب متقاعد هاني شاكر، ولا ضباط الشرطة الذين سينفذون بين الوقت والآخر تعليمات محاربة الفن الهابط، ولا الشباب السمج محدث رابطات العنق الذين سيحاولون أن يبدوا في سمت الشباب “البسم الله ماشاء عليهم” عبر التعبير عن الامتعاض من “الفن الهابط”، كل هؤلاء ومن خلفهم وأمامهم حلمي بكر لن يعرفهم إيلون ماسك ولن يسمعهم أو يعرف إن كانوا وجدوا على هذه الأرض من الأساس، فهم محض سلطة محلية بائدة تفرض نفسها بأدوات شبه عنيفة وبتاريخ من احتكار الوسائط الإعلامية المركزية، تم كسره بالتدريج عبر شريط الكاسيت في زمن أحمد عدوية، ثم لاحقًا عبر الاسطوانات المدمجة، وأخيرًا الإنترنت مع شاكوش وصحبه، وبهذه الوسائط فقط ربما سيعرف إيلون ماسك حسن شاكوش الذي يجاوره قوائم الأكثر سماعًا، لا لشيء سوى أن حسن شاكوش قدم أغنية جيدة وجذابة، هذا كل ما في الأمر وبهكذا بساطة.

** نشرت هذه المقالة على موقع المنصة فى 10 فبراير 2020

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

الأمر بسيط جدًا ولكنه تطور معي بسرعة في ساعات قليلة، استمعت إلى أغنية بنت الجيران، وهي أغنية عاطفية لطيفة تجذب الأذن وتلعب على وتر الانتقال السريع والحاد بين قرار عمر كمال الدافئ وجواب حسن شاكوش العنيف، وهي من كلمات مصطفى حدوته وتوزيع إسلام ساسو…عادة حين تعجبني أغنية أبدأ في البحث عن بقية أعمال أصحابها وتتبع تاريخهم،…

أترك تعليق