حاشية حول جدل محطة مترو أنفاق الزمالك

فشلت كثيرا فى كتابة كلام يتوخى الرصانة بخصوص معركة رفض ” محطة مترو انفاق الزمالك ” فمجرد فكرة أن هناك جماعة من السكان ترفض مرور مرفق عام يخدم مدينة مكتظة بملايين التعساء هو أمر كلما مر ببالى استدعى معه  الغضب وإستباحة السباب والسخرية وكل المشاعرالعاطفية العدائية بكل مدلولاتها الطبقية والأخلاقية …  لذا فعندى هنا عدد من الملاحظات .

أول ملاحظة : أن مصر من البلاد التى تدخل فيها الانسان بإرادته عبر تاريخها فى إحداث تغيرات جغرافية وطبيعية كبيرة خاصة أخر قرنين وبأثمان انسانية باهظة إما لتحقيق أحلام شخصية لحكام أو للمصلحة العامة ، مصر تم تغيير مجرى النيل فيها أكثر من مرة فى عهد الخديو إسماعيل تم إنشاء ترع مثل ترعة المحمودية من العدم لتشرب الاسكندرية ماءا عذبا وتصبح صالحة للإستيطان الواسع  ،شُقت قناة السويس ومات الالاف وسط سخرة العمل فيها ، تم تهجير شعب النوبة بكامله من أرضه التاريخية التى عاش فيها الالاف السنين من اجل بناء السد العالى وتكوين بحيرة ناصر التى تعتبر ثانى اكبر مسطح مائى من هذا النوع فى العالم ، نتحدث عن تضحيات مروعة  وحيوات تضيع وحيوات تنشأ لأجيال وشعوب ، مثال النوبة مثال حى وقريب وقاسى جدا ومازالت حكاياته حية ،فكيف يتجاسر هؤلاء ؟ هذا النوع من البجاحة والعلياء المنحط يجب ان يتم تأمله وفهمه أكثر .

ثانى ملاحظة : أن البرجوازية المصرية والوافدين عليهم وأشياعهم ذهنيا فى الطبقة الوسطى يجب أن يدركوا ويتصالحوا مع حقيقة إنهم ” اقلية ”  ليسوا اقلية بمعنى يستبطن معه حكما أخلاقيا عليهم بإسم “الأغلبية ” بل أقلية بالمعنى الحسابى العددى المحض .أقلية صغيرة فى بحر من الفقر والبؤس فى بلد سيحطم رقمه ويصل ل 100 مليون قريبا ، ويجب أن يدركوا أن اقلويتهم هى بنت رغبتهم وحربهم وواقع من صنع أيديهم ومن صنع النظام الاجتماعى الذين يحاولون الحفاظ عليه بجنون ، ويجب أن يدركوا بالتبعية أن هناك ثمن بسيط لذلك وهو النزوح المستمر من مستوطناتهم النظيفة هربا من حصار العوام ، فرحلة القرن العشرين هى رحلة النزوح من الجمالية للحلمية الجديدة ومن الحلمية الجديدة لجاردن سيتى ومن جاردن سيتى للمهندسين ومن المهندسين للمدن المسيجة فى أكتوبر و زايد ، مثلما كانت شرقا هى رحلة الهجرة من المطرية وحلمية الزيتون لمصر الجديدة ولاحقا مدينة نصر ثم رحلة الهروب الأخيرة للتجمع الخامس ومدن شرق القاهرة الجديدة المسيجة ،  لذا فلتتصالحوا مع واقع مؤلم اسمه ان الزمالك ليس استثناءا وأن المسألة مسألة وقت .

ثالث ملاحظة : ولأنهم يدركون بشكل ما أن الملاحظة السابقة هى واقع وثمن ومسألة وقت نجدهم ينتجون خطابا يمينيا مجنونا بينهم فبدلا من أن يسعوا لحل وسط ويتحدثوا بتواضع عن حق الجميع فى الحركة والتنقل من دون إيذاء معالم وممتلكات الأخرين نجد كثير منهم ينتج خطابا طبقيا عتيقا لا يليق إلا ببدايات القرن العشرين يتحدث عن الجمال فى مواجهة القبح والعظمة فى مواجهة البؤس والخاصة فى مواجهة ” العامة ” ،  كان يمكن ببساطة بدء النقاش بحق المصريين فى دخول الزمالك وإمكانية إنشاء المحطة فى مسار لا يكلف المكان تكاليف معيشية كبيرة لكننا وجدنا خطاب منتشر يرفض وجود المحطة من حيث المبدأ .

رابع ملاحظة : أن هذا البلد المستمتع بطبقيته المعطلة لكل نمو أو إنتاج أو حياة كريمة للجميع ، الغنى قبل الفقير ، فهومن فرط تلك الطبقية ودون أن يدرى يتبنى من الأصل سياسات للحد من حركة البشر وتنقلهم إبتداءا ، لأنه نظام لا يستثمر فى تنمية البشر فعلا ويحاول الحفاظ على حوافه الحديثة كأولوية ، سنجد فى التاريخ قصص لطرد الصعايدة من محطة رمسيس ودفعهم للعودة لقراهم و سنجد من يذكر تلك الأيام بالخير بإعتبارها رمز لسطوة المدنية الحديثة ومجد عزها ، سنجد من سيبكى من ترييف المدينة ولو سألته ما الحل اذن ربما سيرد ربما ” إبادة الريف ” شرطا ان معظم هؤلاء هم نازحين جيل ثانى او ثالث من الريف !!

حقيقة أن مصر بلد يتم الاستثمار فى الحد من حرية الحركة فيه أمرلا يدركه إلا من عاش فى الخارج ونظر من خارج الصندوق الاسود المعتم  ، فيبدأ فى طرح اسئلة ساذجة من نوع لماذا لم تتوسع خطوط السكك الحديد فى مصر وتتشعب وتتطور بحيث يتناقل الخلق وتتسع الرقعة ويزداد الانتاج بإزدياد سرعة الحركة ؟ ، لماذا الاستثمار دائما فى الإنتقال الخاص أولا وثانيا وثالثا ثم للنقل العام والجماعى أخيرا ، لماذا السيارة ثم الميكروباص ثم التوكتوك هم وسائل النقل وكلهم وسائل خاصة ومشاريع شخصية فى التحليل الاخير ، ولماذا لم تمن تلك الدول على عوامها بشبكات نقل جماعى كمشروع مترو الانفاق الذى كان من الممكن أن يكون اكبر من ذلك بكثير لو كانت هناك إرادة مختلفة من الخمسينيات ؟

أعلم ان المجال العام ضيق وأن الأحياء ” الراقية ” متنفس لبعض الذين من خارجها خاصة فئة المثقفين والنساء ، لكن ليس لدرجة محاربة فكرة مترو انفاق ، فهذه فانتازيات برجوازية تشعر بالذنب وتدرك أن للأخرين حق عليها و لكنها تخاف من غاراتهم وسبى نسائهم وما هذا الجنون الا محض حيلة دفاعية !!

 

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

فشلت كثيرا فى كتابة كلام يتوخى الرصانة بخصوص معركة رفض ” محطة مترو انفاق الزمالك ” فمجرد فكرة أن هناك جماعة من السكان ترفض مرور مرفق عام يخدم مدينة مكتظة بملايين التعساء هو أمر كلما مر ببالى استدعى معه  الغضب وإستباحة السباب والسخرية وكل المشاعرالعاطفية العدائية بكل مدلولاتها الطبقية والأخلاقية …  لذا فعندى هنا عدد…

Comments

أترك تعليق