تلك البلاد التى لم تعد كبلادهم

لاشك ان مصر تمر بلحظات شديدة الثقل هذه الايام ، تداعى  شديد الوطأة من تداعيات زلزال 28 يناير 2011 بكل اشكال المد والجذر الذى اعقبه ، حالة من حالات الهوس الوطنى والممارسات القمعية المصاحبة لمحاولة صناعة زعيم نصف الله ، وهى المحاولة التى لا استطيع لجزم بمدى جديتها أوواقعيتها ومدى قدرتها على الصمود لفترة ، كل هذا معطوفا على ارهاب مسلح يطل برأسه يوما بعد اخر ، فى هذه الاجواء المس فى بعض المعارف والإصدقاء حالة من القنوط واحساس باللا جدوى امام المشهد الحالى ذو اللون الرصاصى الغامق وترتفع  بينهم نبره تقول بوضوح ان  ” هذه البلاد لم تعد كبلادى “

اجد نفسى اعود بالذاكرة لأعوام كثيرة مضت كنت وقتها خارج مصر فى اقصى جنوب شرق الكوكب فى استراليا ، حيث  التقيت شخوص لم تعد اى بلاد كبلادهم فعلا ، المصادفة انهم كانوا جميعا زملاء عمل مؤقت لم يستمر لشهرين وانهم جميعا قادمين من تجارب نعرفها او نسمع عنها جميعا بل ربما عاصرها بعضنا فى مصر.

أزارينا إيسانوفيتش

كانت وقتها فى منتصف الاربعينيات ، مهاجرة اوروبية من البلقان وكانت ابنتها مايا التى لم تكمل بعد دراستها الثانوية تعمل معنا احيانا فى نفس الشركة كموظفة استقبال ،  فى بلدان المهجر متعددة الأعراق ليس من قبيل الذوق سؤال الناس عن بلدهم الاصلى الا لو شعرت بإستعداد واضح من الشخص نفسه  لتقبل السؤال وبالطبع ليس من اول حوار مشترك.  حين سالت ازارينا عن بلدها الاصلى ردت بتحفز يوغوسلافيا !! .. الاجابة جعلتنى اتصورها صربية مهاجرة ولكن حين عرفت من مايا ان لها اخ اسمه ايدن وهو اسم شائع بين مسلمى البلقان صرت اكثر فضولا لمعرفة المزيد عن اصول المرأة وسر اجابتها على سؤالى.

بعد اسابيع وفى سياق حديث سياسى عن كيف ان فى اواخر السبعينيات كان 77% من شعب البلقان يرى نفسه يوغوسلافيا وفقا لإستفتاء نزيه .. حكت لى ازارينا من تلقاء نفسها قصة رحلتها الى اقاصى الكوكب .. فالمرأة ولدت لأب مسلم وام كرواتيه فى سراييفو . علاقتها بالدين الاسلامى لم تتعدى الذهاب الى قبر جدها وقراءة الفاتيها ” الفاتحة  يعنى ” بعد ان تضع منديلا ابيض فوق رأسها الى جانب طقس عيد الأضحى الذى لم يكن يعنى لها اكثر من ذبح خروف فى تجمع للمسلمين فى المجزر الألى وتركه هناك ليوزع لحمه  بمعرفة الدولة حيث ان غالبية الناس من اكلى اللحم بشراهة معظم الاوقات .

صادقت ازارينا شابا مسلما انجبت منه مايا ولاحقا تزوجت رجلا صربيا وصفته بأنه الأهم فى حياتها وانجبت منه ايدن ، هذا الرجل تطوع  بعد سنوات فى ميليشيات رادوفان كرادجيتش جزار صرب البوسنة ولم تعرف ازارينا مصيره بعد ان هربت بالأطفال . اثناء هروبها  روت  لى انها التحقت واقتربت اكثر بعائلة امها الكرواتية  مرة اخرى.. وتقول ازارينا ان عالم السعار القومى الذى بدأ يظهر مع اواخر الثمانينيات لم تكن قادرة على فهمه . نتكلم نفس اللغة ونحن ابناء ذات المدينة المتعلمين لا فروق بيننا  الا سمت  بسيط يظهر فى بعض الممارسات الموروثة لا اكثر ، اما ان تتطورالأمور الى تقسيم وحروب اهلية بين هؤلاء فعفوا No Way . لم  تتوقع ازارينا قسمات العالم الجديد الذى ستولد معه كرواتيا وصربيا  واكثر من بوسنه وهرسك  واربع حروب اهلية ومذابح لا تحصى، لكنها كانت من الذكاء ان تقرا الطالع وتقرر فور انهيار الاتحاد السوفيتى فى 1991 ان تترك ” يوغوسلافيا ” وتقسم انها لن ترى المستقبل  على هذه الأرض ولن تربى اطفالها فى هذه البلاد التى لن تعود فعلا كبلادها .

 فيكتور عبد المسيح

ولد كأقلية للأقلية .. قبطى سودانى وهم اقلية مسيحية اصول كثير منهم من صعيد مصر وانتقلوا الى السودان وقتما كان الوادى واحد . يتكلم فيكتور اللهجة السودانية ويحمل ملامح صعيدية مألوفة . عائلته تركت السودان بعد ان قامت ميلشيا تابعة للترابى بالإستيلاء على محلاتهم التجارية وطردهم منها قسرا ثم مساومتهم لاحقا على البيع بسعر بخس او لا شيئ .. يحمل مرارات السنين بلهجته تلك وسحنته هذه . كره عنصرية الاستراليين وبغضهم بغضا شديدا مرتين ، مرة لأنهم يعاملونه كملون ” شأن اى شخص ليس قوقازيا اشقر ” ومرة لانهم يعتبرونه مسلم لان اسمه ” عبد ” المسيح ” .. واى ” عبد ” او “Abdel  ” فى السياقات الغربية يحال فورا الى خانة المسلمين والذين لم يكونوا محل مودة وترحيب شديد فى استراليا فى سنوات ما بعد انفجارات بالى الارهابية فى اندونيسيا والتى راح ضحيتها عشرات الاستراليين عام 2002 .

كان فيكتور يتحدث احيانا عن اوقات الألفة والراحة التى يجدها بين اهله وعشيرته الواسعة .. والتى يالا المصادفة فى مدينة سوهاج وعرفت منه انه كل عام ونصف يطير الى القاهرة ويمشى فى شوارعها اللطيفة وناسها الطيبين ” هو اللى بيقول ”  ثم  يمتطى صهوة الميكروباص الى سوهاج حيث جنة عائلته الواسعة ، ولما سألته عن المماحكات الطائفية فى زياراته لسوهاج قال لى انها نادرة والناس فاهمة الأصول واحسن من السودانيين السود  ” فيكتور من بيض السودان ”  والأستراليين البغال على حد وصفه.. معرفتى القصيرة بالرجل وهمه الدائم وكأبته الأبدية تجعلنى اقول إن فيكتور عبد المسيح كل البلاد ليست كبلاده وكل البلاد لم تكن يوما كبلاده .

 روجر حساسينى

رجل مثير للأنتباه كان يقترب من منتصف الخمسينيات ، يتحدث الانجليزية بلكنة استرالية اصيلة وملامحه يمكن ان تصنفه كأوروبى من دول البحر المتوسط او شاميا او تركيا ، ولكنه كان مصريا من درب البرابرة او بالأحرى والده .

ولد روجر حساسينى عام 1952 كإبن سابع بين 8  اطفال لأسرة يهودية مصرية على اطراف حارة اليهود ” بالطبع لم يكن اسمه روجر وقتها وكان يحمل اسما مصريا ما ” ، لم افهم منه بالظبط طبيعة عمل والده هل كان ساعاتيا ام تاجر تجزئة لكن ما فهمته انه كان يهوديا مصريا منغلقا وأب لكتيبة من الأطفال ولا يغادر درب البرابرة الا لقضاء مصلحة ما فى السكاكينى . عالمه محدود ولا يختلط بالجاليات اليهودية الأجنبية ولا يعرف لغات اخرى الا بعض الفرنسية وله كل الملاحظات المصرية المعروفة ناحية سلوك ” الاجانب ”  المنحل الخ الخ الخ الخ .

عالم والد روجر انهار عام 1956 مع العدوان الثلاثى ، اصبحت مصر كلها بما فيها درب البرابرة والسكاكينى فى حالة حرب مع ” اليهود ” .. سمع الرجل ان هناك حالات اعتداء على الخواجات الاجانب وعلى ممتلاكاتهم وهم اصحاب السطوة والنفوذ اصلا فى عالم مصر التى يعرفها .. فما هو حال اليهود اذن ؟ .. انها حرب مع انجلترا وفرنسا واسرائيل ، كانت مؤامرة بحق وربما كانت المؤامرة الوحيدة الحقيقية التى حيكت فعلا ضدنا وفشلت ايضا ، خاف الرجل ان يطاله ما طال بعض اليهود عام 1948 فقد كان يظن ان الموجة انتهت ولكنه وجد الموج عال جدا هذه المرة . اشار عليه احد الأقارب بالذهاب الى اسرائيل عبر اليونان فكان رد الرجل وفقا لترجمة روجر ” احنا مش بتوع الكلام ده ” .

قرر الرجل الذى مادت به الارض وان كل تلك البلاد جميعها ليست من الان كبلاده . قرران يهجرها جميعا حيث لا مكان له فى مصر ولا سبيل لفرنسا ” بتاعة الخواجات ” ولا مجال للكلام عن اسرائيل . اخذ الأب القرار الجرئ وشحن زوجته واولاده وحاجياته على سفينة تبحرمن بورسعيد المحررة الى ابعد مكان فى الدنيا  طلبا للأمن والنسيان . حكى لى روجر كيف كان اول تلميذ ملون فى المدرسة الإبتدائية فى منطقة هيريستفييل فى سيدنى وملون هنا مرة اخرى تعنى الغير انجليزى او شمالى . وحكى لى كيف كانت معاناته مع البيض الأجلاف ” شرطا انه ابيض ” وانه تحمل الكثير مرة لانه ملون ومرة لانه يهودى .

كان روجر حساسينى يحمل جوازات سفر لثلاثة بلدان افريقية الى جانب جوازه الاسترالى  وافهمنى انها صيغة و ميكانيزم امان يهودي خوفا من اى هولوكوست محتمل ، ويتحدث روجر بطلاقة وبحسب روايته الفرنسية والايطالية واليونانية وبعض الصينية الى جانب انجليزيته  تعلمها جميعا فى سيدنى عبر الاحتكاك طفلا بالجاليات . ولما سألته عن العربية وماذا تعرف عنها قال  ليس الكثير ولكن ابى كان يردد جملة من حين لأخروعالقة فى ذهنى وهى ان ” عبد الناصر ابن الشرموطه دبح البلد ” .. نطقها بلكنة فرنسية ما .

فى النهاية ..  ربنا ميكتبهاش على حد.. ويجعل بلادنا كبلادنا كما نود ان تكون .. لانه ليس هناك بلاد كبلادك .

** نشر هذا المقال على موقع ” قل ” فى ربيع عام 2014  وذلك قبل أن أغادر مصر بعام .

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

لاشك ان مصر تمر بلحظات شديدة الثقل هذه الايام ، تداعى  شديد الوطأة من تداعيات زلزال 28 يناير 2011 بكل اشكال المد والجذر الذى اعقبه ، حالة من حالات الهوس الوطنى والممارسات القمعية المصاحبة لمحاولة صناعة زعيم نصف الله ، وهى المحاولة التى لا استطيع لجزم بمدى جديتها أوواقعيتها ومدى قدرتها على الصمود لفترة ،…

أترك تعليق