الحرية والعدالة والكرامة.. شعارات محل تأييد غامض

حسنا، فقد حل موسم الحديث عن يناير 2011، فى وقت يتحدث فيه كثير من أنصارها عن المراجعات ونقد الذات، ويتحدث كل أعدائها عن نهايتها «كنكسة». غير أن الحديث عن نجاح أو فشل الثورة يدفعنى ابتداء للتساؤل: عن أى ثورة نتحدث؟ ذلك لأن لدينا أكثر من ثورة يناير، وبأكثر من مستوى، وأكثر من محطة.

فلو كان الحديث عن 18 يوما أسقطت حسنى وجمال مبارك، وسلمت السلطة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، فهذه ثورة مظفرة نجحت، وانتهت بالفعل، شارك فيها الملايين بعزم وإباء، وغادر معظمهم إلى المنازل فرحين بتحية اللواء محسن الفنجرى العسكرية لأرواح الشهداء، مع بقاء أقلية صغيرة جدا فى الميادين. لكن سواء الذين غادروا أو الذين بقوا أو الذين لم يشاركوا من الأصل، فقد أدركوا بدرجات متفاوتة أن حياتهم العادية لم تعد عادية، فلا التحديات عادية، ولا الأحزان عادية، ولا الصراعات أو المصائب عادية، وان مصر أمام لحظة جديدة.

بدأت بعد ثورة إسقاط مبارك ثورة أخرى، وهى ثورة التوقعات المرتفعة، وثورة السعى لتحقيق شعارات الـ18 يوما التى رفعت، إلى جانب شعار إسقاط النظام، إسقاط مبارك- شعارات الكرامة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، والحرية، والتى ترجمتها السياسية المادية هى الإصلاح الجذرى لكل مؤسسات الدولة وأجهزتها الإدارية وإعادة صياغة عقد اجتماعى جديد بين الدولة الجديدة والمواطنين يعاد بحسبه تعريف مبدأ المواطنة الغائب، ليشمل معه حرية التنظيم والحركة والاجتماع العام، ويعاد معه توزيع الدخل والثروة اجتماعيا وجغرافيا، بما يضمن شرعية استمرار الدولة المصرية وقدرة المجتمع على الإنجاز والنهوض، وليس فى هذه الشعارات أى تطرف أو جنوح أو طمع، بل هى الحاجة الملحة والماسة لاستمرار مصر كدولة وكيان موحد مستقل فى القرن الحادى والعشرين.

بيد أن هذه الموجة الأخرى من «الثورة» لم يدافع عنها أو يتبناها حركيا ذات العدد والجموع التى شاركت فى إسقاط مبارك، يمكننا القول بأن شعارات الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية- أى «العقد الاجتماعى المصرى الجديد» هى شعارات محل تأييد عام غامض، لكن من الصعب ادعاء أن جموعا كاسحة من المصريين اصطفت حولها، وهو ما يدفعنى لأن أغامر بالادعاء بأن «الثورة» كشعار موافق جذرى للتغيير، وإعلان لنهاية دولة يوليو- قد تحولت إلى مجرد «تيار» له ثقله من بين تيارات وميول المجتمع. وإنه من الصعب إذًا الحديث عن تلك «الثورة»، باعتبارها معبرة عن آمال ومتطلبات كل المصريين، لأن لدينا فى هذا البلد قطاعات ومصالح رجعية وتقليدية معادية للثورة، ابتداء، ولها جذورها الجماهيرية أيضا، ويوجد أيضا تيار الإسلام السياسى بقطاع واسع من المؤيدين وقتها، وكانت له تصوراته الخاصة عن الدولة الإسلامية، وليس عن الثورة الوطنية والاجتماعية. وبالتالى ربما تكون إحدى المشكلات الرئيسية لتيار الثورة هى ادعاؤه تمثيل كل المصريين خلافا للواقع.

بالتالى، سأبدأ نوعا من المراجعة تنطلق من هذه الرؤية، وتقول إن المشكل الرئيسى ظهر مع طرح تيار الثورة عددا من الشعارات يعجز هو ماديا بذاته وقواه عن تحقيقها، فأصبح مع مرور الوقت فى نظر قطاع متزايد من المواطنين مجرد كتلة للمشاغبة، وليس كتلة للتغيير، بالطبع لا يلام من طرح الشعار السليم حتى لو عجز عن تنفيذه، إلا أن اللحظة وقتها كانت لحظة صراع، وكان لتيار الثورة زخم ومهابة تجعله يجب أن يفكر فى حساب خطواته بمنطق الطرف الطامح فى الانتصار، لكن ما زاد موقف تيار الثورة تأزما هو مخططات وتآمر القوى المضادة التى بدأت بتحالف المجلس العسكرى والإخوان المسلمين وإقرارهما خريطة طريق للتحول السياسى منفردين وتهميشهما باقى المكونات، ما جعل تيار الثورة يخوض معركة أخرى وأساسية على جبهة خريطة الطريق ومسألة الدستور، كل هذا، وتيار الثورة هو من الأصل مكون من مشارب سياسية مختلفة، وكثير منها قيد المراجعة وإعادة التبلور بفعل تشكلها السابق فى عالم ما قبل يناير.

هناك مكامن ضعف ذاتية أخرى إلا أن أهمها فى وجهة نظرى تبنى عددا معقولا من الفاعلين الثوريين خطاب «شباب الثورة»، وهو خطاب- لمن يتذكر- كان من ابتداع دولة مبارك نفسها أثناء ثورة الـ18 يوما والقائل بوجود شباب طاهر برىء غير مسيس يعبر عن الوطن الصافى النقى واقعين تحت تأثير قوى سياسية لها أجندات، كما لوكان النظام نفسه بلا أجندات، الوقوع فى أسر هذا الخطاب أدى عمليا للعزوف عن التنظيم والاستكانة لحالة الابن الشاب المتمرد الذى يخرج فى حملات من أجل الضغط على السلطة (الأب) للظفر بمطالبه، وهى حالة لا تليق بمنطق الثورة المظفرة، فجمال عبدالناصر استولى على السلطة بانقلاب عسكرى وهو عمره 34 سنة، ولم يكن يرى فى نفسه شابا متمردا، بل قائدا لدولة، فما بالنا بشباب يريدون تأسيس دولة جديدة بالكلية عبر ثورة شعبية؟!

ولكن أيا كانت مكامن الضعف، فهى بنت عفوية التجربة، وزخمها السريع، وآلامها المفاجئة، ويشفع لها أن مطالب يناير 2011 هى المطالب الطبيعية للحفاظ على الدولة الوطنية فى مصر، وما 25- 28 يناير إلا إعلان عن واقع جديد، واقع أن دولة 23 يوليو 1952 قد حان وقت حزم حقائبها لترحل، وما نعيشه حتى الآن ما هو إلا الزمن ما بين ساعة الإعلان وساعة التنفيذ، يناير 2011 لحظة إعلان حقيقة موت مرحلة، واللحظة بالفعل مضت، والحقيقة أعلنت، وصارت معروفة للكافة، اعترف من اعترف، وأنكر من أنكر، وما كان قد كان، لذا فـ«يناير» مستمرة.

محمد نعيم .. عضو سابق للمكتب سياسى فى الحزب المصرى الديمقراطى الإجتماعى .

** نشرهذا المقال فى جريدة المصرى اليوم يوم 24 يناير 2014 

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

حسنا، فقد حل موسم الحديث عن يناير 2011، فى وقت يتحدث فيه كثير من أنصارها عن المراجعات ونقد الذات، ويتحدث كل أعدائها عن نهايتها «كنكسة». غير أن الحديث عن نجاح أو فشل الثورة يدفعنى ابتداء للتساؤل: عن أى ثورة نتحدث؟ ذلك لأن لدينا أكثر من ثورة يناير، وبأكثر من مستوى، وأكثر من محطة. فلو كان…

أترك تعليق