رهاب الفوضى وتداعى المستويات التنظيمية الكبيرة

 هذا المقال كتبته فى اكتوبر 2010 قبل اندلاع ثورة يناير بثلاثة شهور وثلاثة اسابيع ونشرته على موقع مجلة البوصلة غير المتاح  حاليا ، بمعنى من المعانى جاءت ثورة يناير لتصفع المقال واستخلاصاته وتصيبنى بالسعادة ثم جاءت إنعطافات مابعد 2013 لتعيد الإعتبار مرة اخرى للهواجس التى اشرت إليها فى المقال وتصيبنى بالألم ، وبين السعادة والألم لاتزال الأسئلة التى حاولت طرحها حية ، صحيح أن طرحى لها فى 2010 كان ساذجا سذاجة كل أسئلة عوالم ما قبل يناير 2011 ولكنها تظل حية ، وبمعنى من المعانى كان هذا المقال نبوءة عن الثورة المضادة ليس عن الثورة .

¨ رهاب الفوضى وتداعى المستويات التنظيمية الكبيرة ¨

سبق وأن أفردت البوصلة فى عددها الثالث ملفا كاملا عن أسئلة التنظيم والعمل الجماعى فى مصر، وكان من البديهى أن يتصدر الملف مقالٌ مطول عن تنظيم الدولة فى مصر من منظور ديمقراطى جذرى. فمن ناحية يظل تنظيم الدولة المصرية هو الأكثر حداثة وعصرنة مقارنة بما عداه، ومن ناحية أخرى فإن أذرع الدولة ممتدة لتحيط تقريبا بكل الأشكال التنظيمية الأخرى فى المجتمع. وبالتالى يبدو أن أية محاولة لفهم الحالة التنظيمية للجماعات والتشكيلات المختلفة فى البلاد مفتاحها هو فهم منطق تنظيم الدولة المصرية.

لكن ماذا لو افترضنا أن هذه الدولة، المنفردة واقعيا بحق التنظيم، والأكثر حداثة بحكم التكوين، تعانى من ضعف الهيمنة الإيديولوجية وعدم الكفاءة، بما لا يمكِّنها من القيام بواجباتها، سواء وفقا لشعاراتها ومخططاتها هى، أو وفقا لتوقعات ملايين من أبناء الفئات الوسطى المدينية الذين صارت مقارنة أحوال معيشتهم ونظام حياتهم بالعالم الخارجى جزءا لا يتجزأ من حواراتهم اليومية؟ ماذا يترتب على تسليم تلك الفئات الوسطى بكلية قدرة تلك الدولة الضعيفة فى نفس الوقت الذى تتذمر فيه من تدخلها بسخف لحماية انفرادها بحق التنظيم؟

حسنى مبارك وثلاثة عقود من وأد حرية التنظيم باسم الاستقرار والاستمرار

سأحاول فى هذا المقال القصير مناقشة آثار تداعى المستويات التنظيمية فى المجتمع وفقا لميراث من تدهور العمل الجماعى والتنظيمى عمره من عمر إعلان الجمهورية. وسأبدأ بأساس هذا التدهور بإجراء فحص سريع للمستويات والخبرات التنظيمية الحداثية قصيرة العمر قبل يوليو 1952. وفى النهاية سأناقش هاجس “الفوضى” الحاضر بقوة فى الكثير من كتابات يومنا هذا، لأبين كيف أن هذا الهاجس يحمل داخله تناقض الحاجة لحرية التنظيم من أجل صياغة إطار للصراع والتفاوض فى المجتمع يحول دون الفوضى، وبين الرهاب من أن تؤدى أية حركة واسعة فى هذا الاتجاه إلى تلك الفوضى ذاتها المأمول تلافيها. والمحصلة هى عدم الإقدام على أى تحرك تنظيمى قد يخلط الأوراق.

تداعيات حريق القاهرة 1952: حين أدركت النخب المصرية أن الشعب الطيب ليس بطيب

كتبت كثير من الأقلام عن مصادرة دولة يوليو 1952 للمجال السياسى والحقل المدنى فى مصر، وعن تأسيس شرعية النظام فى البداية على وضع حد لفوضى تجلت فى حريق القاهرة يناير 1952، الذى عجزت كل القوى المدنية عن احتواء آثاره، بل عن كشف وتفسير ملابساته أصلا. كانت كل الأطراف حاضرة فى الحدث: الوفد فى الحكم، والملك على رأس السلطة، والجيش من خلفه، والأطراف الأقل تأثيرا كالأخوان ومصر الفتاة لا يمكن الادعاء بمسئوليتها التنظيمية عن الأحداث، والشيوعيون يقدسون حركة الجماهير المنظمة على أساس سياسى، لا حركة التدمير العشوائى تلك. هكذا صار حريق القاهرة حتى الآن حادثا مجهول النسب، لم تتصد له إلا نظريات المؤامرة عن ضلوع الملك أو الإنجليز أو مصر الفتاة. فقط الشعب هو البرىء، لأن الابتسامة الطيبة لفقراء القاهرة لا يمكن أن تخفى كل هذا العنف والهياج، أو لنقل أن افتراض العكس بشكل علنى كان إعلانا لواقع لم يكن لأحد قبل بمواجهته. برغم كل نظريات المؤامرة، كان المضمر فى وعى الكثيرين أن الدهماء خرجوا من عقالهم، وأن سيناريو الفوضى قائم بقوة، وأنه يجب وضع حد لذلك، الأمر الذى جعل حركة الجيش بعد ستة أشهر من الحريق فى أعين جانب كبير من الطبقة الوسطى والقوى السياسية القائمة إنقاذا وليس انقلابا، وجعل من الممكن تصور حكم ثلاثة عشر ضابطا لمصر (انخفضوا إلى عشرة ثم إلى واحد) ممكنا بعد أقل من عامين فحسب على انتخابات برلمانية حازت على نسبة تصويت مرموقة وتمتعت بمشاركة سياسية لقوى أخرى زاحمت الوفد الذى فاز بأغلبية كبيرة، ولكن غير ساحقة هذه المرة.

لقد عبر الموقف من حريق القاهرة عن جوهر الرعب الذى قد يسيطر على النخبة المصرية والفئات الاجتماعية الوسطى إذا ما انفلت العقال وخرج العامة والدهماء يمارسون فعلا جماعيا عنيفا أو مستقلا عن إرادة تلك النخب. فالعامة والدهماء ليسوا جزءا من متن الإطار التنظيمى الحداثى للمجتمع. بعبارة أخرى كان حضورهم فى المشهد العام مشروطا بقيادة أبوية تقليدية فيها من الولاء والوصاية والقسر ما يكفى لعدم خلط الأوراق بين المتبوع والتابع. والنموذج الكلاسيكى المحبب لدى هذه النخبة هو قيادة أعيان الريف لفلاحيهم فى ثورة 1919، أو حشد هؤلاء الأعيان للجموع الموالية لهم فى الانتخابات البرلمانية، وهو الحشد الذى يضمن إلى الآن مستويات ما من مشاركتهم فى الانتخابات التشريعية.

لقد تمتع المجتمع المدينى المصرى ما قبل عام 1954 بمستويات جيدة من حرية التنظيم؛ فقد كان حق التنظيم مكفولا أصلا، ولم يكن التضييق على ممارسته سُنَّة من سُنن الحكم. مثلا كان منتسبى جماعة الأخوان المسلمين “غير المحظورة” آنذاك بعشرات الآلاف، وأنشئت نقابة لعموم معلمى مصر فى سياق إضراب ناجح، وكان هناك أكثر من اتحاد عمالى وجماعات وتجمعات أدبية واسعة وأندية رياضية لها شعبية جماهيرية لم يتأسس بعد يوليو 1952 من طرازها إلا ما ندر، فضلا عن العديد من النقابات المهنية التى لم ينجُ منها، نسبيا، فى عهد الضباط إلا نقابتى المحامين والصحفيين، الأولى بحكم طبيعة المهنة والثانية بحكم صغر عدد أعضائها ونفاذ صوتهم.

ولكن من المبالغة اعتبار المجتمع المدنى المستقل وتراثه التنظيمى فى تلك الحقبة عمادا للمجتمع لا يستطيع الاستمرار بدونه؛ فقد كانت هذه التنظيمات حديثة نسبيا، نشأت فى أحضان بيئة كانت ولا تزال أطرها التنظيمية تقليدية، مكوَّنة من عائلات ريفية ممتدة أو قبائل أو أحياء عريقة راسخة الأعراف، تعيش بمقتضى حزمة من التقاليد، من ضمنها حفظ الأمن بواسطة بعض رجالاتها. كان للأشكال التقليدية من الإشباع والقابلية للحياة ما جعل التنظيمات المدنية الحداثية بنية مكملة لها. بعبارة أخرى كانت تنظيمات المجتمع المدنى الحديثة تقع على تخوم تنظيمات تقليدية أوسع بكثير. وبالتالى حين أطلت على المجتمع أزمة عميقة أو نذر فوضى أصبح من السهل نسبيا تجميد هذه المنظمات الحديثة أو تحديد حركتها لدرجة الشلل أو الوصاية عليها، لتنحدر لوظيفة ساعى بريد للقيادة السياسية. كان هذا هو خيار حركة الضباط، فليس صدفة أن يتعامل مجلس قيادة الثورة مع هذا التراث باعتباره ضجيجا غير ضرورى يمكن استبداله بضجيجهم هم، وأن يقرر صراحة أن الوقت قد حان لكى يلتفت الطلبة لدروسهم والعمال لعملهم. بعد الثورة بشهور رفعوا شعارا باهتا هو “الاتحاد والنظام والعمل”، كشعار للقضاء على ما اعتبروه ترهات صبيانية. ومن وقتها استقر الأمر على النظر لكل مبادرة تنظيمية مستقلة بتوجس سياسى أو جنائى، مع التسامح أحيانا مع بعض المبادرات إذا رؤى أنها ترفيهية أو خيرية.

كان هذا التحول ممكنا لأن عموم السكان ظلوا أسرى بنى تقليدية تعتبر التفاعل التنظيمى الحر أصلا مشكوكا فيه بداهة، أو ترفا لمن هم فى أعلى السلم الاجتماعى. كان شرط الانتماء لشريحة الأفندية أساسا لولوج تلك العوالم، إذا استثنينا الحركة العمالية غير الواسعة آنذاك (على عكس ما يتصور البعض)، والتى وجب إعدام اثنين من ناشطيها لكى تصل رسالة الحكام الجدد نقية نقاء الماس بعد أسابيع قليلة من وصولهم للسلطة.

فى الحديث عن انتظار الفوضى الناتجة عن حريق القاهرة الثانى

بعد ما يناهز الستين عاما على حريق القاهرة، يتصاعد اليوم الحديث عن حريق جديد فى كتابات العديد من المحللين، معظمهم من غير الجادين من وجهة نظرى. لن أدخل هنا فى جدل بشأن صحة النبوءة التى لم تتحقق بعد، بل سأحاول تسليط الضوء على بعض ملامح المشهد التنظيمى الحالى فى المجتمع وأثره على تجدد حديث الحريق أو الفوضى.

ليس من قبيل التشاؤم تسمية المشهد التنظيمى الراهن فى مصر بالمشئوم. بداية سأعرِّف الإطار التنظيمى وأصفه بأنه المجال الذى ينسق عمل مجموعة من البشر وفقا لخطاب أو مصلحة، ومن شأنه القدرة على الحشد والتعبئة لصالح مفردات ذلك الخطاب أو لتحقيق تلك المصلحة. وإذا استثنينا تنظيم الدولة المصرية، الذى من المفترض نظريا أنه يحقق المصلحة العامة، لن نجد إلا ما يعد على أصابع اليدين من المنظمات التى تتوافر فيها تلك الشروط، مع إغفال الجماعات متناهية الصغر، من مجموعات سياسية أو جماعات أدبية وفنية.

يمكن أن نعتبر الانتخابات أبرز مثال يوضح ماهية هذه المنظمات. فبرغم ما يرافقها من عدم نزاهة تظل من العمليات الشرعية النادرة التى يستجيب لها أوسع جمهور منظم فى مقابل المظاهرات أو الاعتصامات، التى وإن سُمح لها بهامش للحركة فإن هذا الهامش لم يصل بعد لمنزلة الحق المكفول. تتبقي حركة منظمات المجتمع المدنى والجمعيات الأهلية التى نجد أن معظم منظماتها باستثناء النشاطات الخيرية غير قابلة للحياة لفترة طويلة بغير دعم جهات مانحة خارجية، أى أنها تفتقد لقواعد تمويلية محلية، الأمر الذى يكشف مستوى شعبيتها الحقيقى بصرف النظر عن تضييق الدولة، والذى هو معطى ثابت فى كل الحالات.

فى الانتخابات، لن نجد قوة قادرة على الحشد والتعبئة من أجل التصويت إلا جماعة الأخوان المسلمين والكنيسة القبطية والروابط المحلية القبلية والعائلية. لدينا إذن، باستثناء العصبيات المحلية، طائفة لأقلية دينية وجماعة دينية إسلامية تهدف عمليا إلى بلوغ مرتبة الطائفة الكبرى. هذه هى الأطر التنظيمية الكبيرة بغض النظر عن درجة الفاعلية. لذلك ليس صدفة أن يصبح خطاب التلاسن الطائفى محببا وساخنا ومتداولا بين أوسع جمهور. وبرغم المشاركة الكبيرة نسبيا فى الانتخابات، لا تزيد نسبة المشاركين عن ربع عدد أصحاب البطاقات الانتخابية فى التقديرات الحكومية المشكوك فيها، بالإضافة إلى تركز النسبة الأكبر من المقترعين، اقتراعا صحيحا أو مزورا، فى الريف.

هذه الملاحظة الأولى لا تكفى للتقييم. يتطلب الأمر أولا أن نحدد منظورا نفحص منه المشكلة التنظيمية. وأول خطوة فى هذا الاتجاه أن نضع فى اعتبارنا أن مصر بلد يتخطى سكانه الثمانين مليونا، يتركز ما يناهز ربع سكانه فى القاهرة الكبرى. هذا الاعتبار يجنبنا قياس فكرة اضمحلال التنظيمات الكبيرة بالخوض فى الجدالات الشائعة وسط الجماعات المتناهية الصغر من المثقفين التى نتحرك بينها حول أطر حركة هذه الجماعات الهامشية نفسها.

فى ضوء هذا الاعتبار، الفكرة الأساسية المطروحة هنا هى أن مشروع دولة 1952 فى مصر، أى الذى قام على تأميم المجتمع المدنى موضوعيا، لم يعد قادرا على السيطرة التنظيمية اليومية على أنشطة الناس. بداية أقرر أننى أرى أن تصور دولة 23 يوليو عن الهيمنة التنظيمية كان مختلفا عن مثيله فى الدول التى يحكمها حزب إيديولوجى واحد، بدءا بالحزب الشيوعى الصينى نزولا لحزب البعث العراقى، حيث كانت المنظمات الحزبية مهيمنة على كل مناحى الحياة. بالنسبة للنظام المصرى كان الضبط التنظيمى لإيقاع المجتمع يتم بإلحاق التنظيمات الموجودة عمليا بالدولة، عبر تحويلها، كما ذكرت سابقا، لساعى بريد ينقل هموم أعضائه للقيادة السياسية، أو بالسماح بتكوين أشكال تنظيمية تعمل تحت رقابة أجهزة الدولة الأمنية.

ولكن هذا الترتيب صار خيالا، أو بالأصح صارت فاعليته تتضاءل باستمرار؛ فقد طرأت تحولات اجتماعية عديدة بالإضافة للزيادة السكانية الكبيرة، الأمر الذى أدى إلى عجز هذا الترتيب عن استيعابه تنظيميا. فمن ناحية تحولت قطاعات كانت مهمشة تماما إلى رعية، وتحولت قطاعات من الرعية لأشباه مواطنين. وما العملية المسماة ترييفا للمدينة، والتى بدأت فى الستينيات وبرزت فى منتصف السبعينيات، إلا زيادة نسبية للفئات الوسطى فى المجتمع بفعل عدة أسباب، منها الهجرة المؤقتة للخليج. ولكنها لأسباب متشابكة لم يتمثل هؤلاء القادمون الجدد قيم ومعايير وطريقة حياة الطبقة الوسطى السابقة عليها. ومن ناحية ثانية لم يعد الريف المصرى يعيش فى ذات العزلة التى كان عليها. فقد أصبحت علاقة الريفى بالحواضر المدينية علاقة عمل وسفر، لا علاقة هجرة تضطره للتضحية بجزء كبير من تراثه للاندماج فى عالم غريب وجديد.

المحصلة ببساطة هى تزايد عدد المرشحين لنيل شرف المواطنة، أى الانتماء المجرد للدولة، تزايدا انفجاريا. فالأبنية التقليدية أصبحت أقل هيمنة واحتواءً للمنتمين إليها. لم تعد العائلة الممتدة أو القبيلة تملك ذات السلطة على أبنائها، ولم يعد الحى الشعبى على الصورة التى جسدتها دراما أسامة أنور عكاشة. تضخمت القاهرة بأحياء جديدة، سواء كانت عشوائية أم مخططة، تعج بملايين الأفراد “من غير سائس يسوسهم” كما قال الجبرتى، أفراد تائهين كُثر بلا جماعات تقليدية أو أطر تنظيمية تعينهم على مواجهة هذا الغول المسمى عاصمة.

علاقة الدولة بكل مبادرة تنظيمية أهليه أشبه برأس ميدوزا التى إذا ما نظرت إلى شيء أحالته إلى حجر

أصبح هؤلاء جميعا محكومين فى دولة تفرض قيودا على التنظيم المستقل وفى نفس الوقت لا تنظم أحدا. بعبارة أدبية، أصبحت الدولة من الناحية التنظيمية كرأس الشخصية الأسطورية اليونانية ميدوزا التى إذا نظرت إلى جسم حى أحالته إلى حجر. بل انتقلت عدواها إلى ما أبقت عليه من منظمات. فى الماضى فرضت دولة يوليو العضوية الإجبارية فى النقابات المهنية الرئيسية. والآن، إذا بادر بعض النقابيين بالحديث عن تكوين نقابة موازية هوجموا بضراوة من تيار واسع داخل النقابات القومية، من الموالين للحكومة والمعارضين على السواء، بتهمة تفتيت الكيان النقابى الموحد.

تفسير ذلك “الإجماع” على الشلل التنظيمى هو تداعيات الانهيار التنظيمى نفسه وأثره على الفئات الوسطى. كان الهيكل التنظيمى المحكوم الذى أنشأته دولة يوليو يحول الناس إلى أفراد منعزلين. فالفرد مادام فردا تكون خياراته قليلة، لأنه مغترب عن مجتمع تضعف فيه سلطة الدولة وتتفاوت فيه معايير سيادة القانون بشكل مذهل يخسف بمستويات الأمان إلى الحضيض. وفى نفس الوقت يستطيع هذا الفرد أن يلاحظ أن الدولة تحارب بشكل غريزى أية مبادرة تنظيمية واسعة، أو تفتح لها بابا ضيقا عبر نظرة تحمل روح الارتياب فى مجرم، حتى لو كانت تلك المبادرة التنظيمية هى رابطة لمشجعى النادى الأهلى مثلا، الذين أصبحوا مصدرا للصداع وموضوعا للمحاربة لمجرد أنهم يدخلون الملاعب فى صورة مئات أو آلاف منظمة. وما دام الوضع كذلك يظل أفراد الفئات الوسطى فى المجتمع برغم ضجيجهم العالى أسرى الخوف من دفع الثمن المرتفع لمحاولة تدشين أى تحول عميق فى هذه الآليات.

وما دام أفراد الطبقة الوسطى عاجزين عن التنظيم، من الطبيعى أنه بقدر سخطهم على القهر الحكومى، يكونون مرعوبين أيضا من أى اختراق كبير للوضع الراهن. فأية تحولات اقتصادية أو سياسية غير منضبطة فد تخلط الحابل بالنابل. ويلعب الإعلام المرئى والمكتوب، الحكومى والمستقل، دوره فى دعم هذا الوضع القائم على ازدواجية التمنى- الخوف. دعونا نعود للخلف بضع سنوات فقط ونتذكر رهاب التحرش الجنسى الذى ساد الصحف والقنوات التلفزيونية. دعونا لا ننسى كيف تحولت إضرابات المحلة الكبرى الناجحة من فعل إيجابى واسع ومنظم إلى إمكانية فوضى عارمة وجب حصارها بعد السادس من ابريل 2008، فقط لأن سكان المدينة قاوموا عملية إرهابها وتكديرها.

الأخطر أن سيناريوهات رهاب الفوضى، أو خيالاتها، تطورت مع تطور المجتمع نفسه. فليست الفوضى التى يكثر الحديث عن تهديدها هذه الأيام محصورة مثل حريق القاهرة فى هجوم على ميادين وسط القاهرة. فهى تشمل احتلال ضواحى راقية مسيجة من قبل سكان أحياء عشوائية، أو صدامات طائفية متعددة البؤر مصحوبة بقطع الطرق الرئيسية السريعة. وربما تكون صدامات واسعة بين مشجعى كرة القدم للناديين الأوسع جماهيرية فى القاهرة. وقد يترافق مع ذلك طوفان من التحرشات الجنسية فى الشوارع واعتداء على الممتلكات العامة والخاصة.

ما ذكرته توا سبق أن قدم بعضه بتكثيف فج وردىء فى فيلم دكان شحاتة للمخرج السينمائى خالد يوسف المصنف، عنوة، كصوت من الأصوات الديموقراطية المطالبة بالتغيير، والذى سبق أن أنهى فيلما بإزالة حى عشوائى بسكانه مع بعض الدموع على بلد تبحث عن الولد. تزامن مع هذا الفيلم فيلم آخر تنكر فيه خالد يوسف فى زى يوسف شاهين، كان عنوانه استنكاريا: “هى فوضى؟”. كانت الفوضى فى هذا الفيلم هى الغياب التام لسيادة القانون على يد أمين شرطة فى قسم.

الفكرة هنا أنه يبدو أن أفلام خالد يوسف المذكورة تعبر تعبيرا أمينا عن مزاج عام (للفئات الوسطى بالطبع)، بشان التحذير من نذر الفوضى، يحمل فى نفس الوقت خطابا يطالب بأوسع حرية فى التعبير والحركة. ولكن هذه الأفلام تذكرك فى ذات الوقت بأن هذا البلد لن يعيش فى أمان بدون حاكم قوى و”دكر” فى ظل تناقضاته وأزماته الحالية. ليس الدليل على ذلك هذه الأفلام فى حد ذاتها، بل نجاحها الجماهيرى الكبير، مضافا إليه الثناء النقدى من غالبية المعلقين الصحفيين الذين من فرط إعجابهم برؤية وخطاب هذه النوعية من الأفلام تغاضوا عن تدنى مستواها الفنى الواضح لأى ذى ذائقة. هذا كله يكشف عن انتشار هذا المزاج لدى جمهور الطبقة الوسطى.

صورة لم أكن أتخيل تحققها واقعا وقت كتابة المقال فى 2010

رهاب الفوضى فى مصر بقدر ما يعكس الحياة فى ظل فقر تنظيمى فى مجتمع كبير، بقدر ما هو شعور يطوى داخله ميولا وانحيازات محافظة ترتاب فى الحركة، لأنها ميول فئات عاجزة عن الحركة وليس لها مشروع لحل مشكلة التنظيم الاجتماعى، وبالتالى تشدو لفظيا، وربما تتمنى قلبيا، الحركة المستقلة والديمقراطية، لكى تعيش فى بلد على غرار ما تراه فى الأفلام الأمريكية، أو البلاد الأوربية التى سافر البعض إليها. ولكنها فى نفس الوقت يتملكها الرعب من أن تفلت الحركة من أيدى الجميع لتفتح الطريق لفوضى تزعزع أمانها الاجتماعى، الأغلى عندها من الحياة ذاتها. فى ظل فقر هذه الفئات الفكرى، وعجزها الحركى، الأرجح أن يبدو لها الحذاء الثقيل للأمن أخف وطأة من حشود الفقراء المندفعة .

** القاهرة فى 26 أكتوبر 2010 … نشر فى عدد  مجلة البوصلة  نوفمبر 2010

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

 هذا المقال كتبته فى اكتوبر 2010 قبل اندلاع ثورة يناير بثلاثة شهور وثلاثة اسابيع ونشرته على موقع مجلة البوصلة غير المتاح  حاليا ، بمعنى من المعانى جاءت ثورة يناير لتصفع المقال واستخلاصاته وتصيبنى بالسعادة ثم جاءت إنعطافات مابعد 2013 لتعيد الإعتبار مرة اخرى للهواجس التى اشرت إليها فى المقال وتصيبنى بالألم ، وبين السعادة والألم…

أترك تعليق