المعارضة المصرية وأزمة الخيال السياسى

كتبت هذه المقالة فى أول أعداد مجلة البوصلة فى ربيع عام 2005 وهى فى نفس الوقت أول مقالتى المنشورة باسمى  ، وهى تنتمى بالكامل إلى عالم ماقبل ثورة يناير 2011 من حيث الوعى بمفرداته وقواه السياسية وأفقه حينها ، ومن المفيد قراءته بأثر رجعى لفهم طبيعة الجدالات والخطابات فى ذلك الوقت وطبيعة النقد ” الردايكالى ” الشاب من أمثالى لما كان سائدا وقتها .

هل المشكلة الحقيقية لأحزاب المعارضة هى فقط تعرضها لقمع وتضييق السلطة عليها؟ أم أن ثمة جذور أعمق فى تصوراتها ونشاطاتها؟ هل المعارضة الحزبية الشرعية وشبه الشرعية فى مصر تتصرف كأحزاب معارضة تسعى إلى السلطة؟ أم كتيارات إيديولوجية تدافع عن إلتزامات فكرية موروثة منقطعة الصلة بالواقع؟ يناقش محمد نعيم هذه القضية محللا أبعادها، ومقترحا الشروط الضرورية لتجاوز هذه الأحزاب/ التيارات لأزمتها البنيوية.

لماذا لا تغامر تيارات المعارضة المصرية وتتخيل نفسها فى السلطة

فى ذهن المواطن المصرى باختلاف انتماءاته الاجتماعية شكل واحد للسلطة السياسية والتنفيذية، هو النظام السياسى القائم. وإذا حدث وكانت لديه معلومات عن وجود معارضة سياسية، فأغلبها شديد التشوش والإلتباس. فالتيار الإسلامى مثلا برغم ثقله المؤثر فى المجتمع، يشير معظم العامة البسطاء إلى أفراده بـ”الجماعة السنيين”. ويقتصر حضور أية خطابات سياسية أخرى على حيز اجتماعى شديد الضيق، أو على الجماعات التى تتداولها بحكم الاحتكاك المهنى، كالصحفيين والمحاميين والنقابيين العماليين وشريحة من طلاب وأساتذة الجامعات مثلا.

وفى إطار ذلك المجال المحدود إعتادت شرائح من الخاصة المسيسين الحديث عن السلطة وعن التحالف الاجتماعى الذى يحكمها، وبالأخص عن المؤسسات الأكثر سطوة ونفوذا فى أبنيتها. وأسهب المشتغلون بالفكر والبحث الاجتماعى السياسى فى شرح العلاقة بين السلطة وأجهزتها وبين مواطنيها، ومدى قدرة النظام الحاكم، وقبل ذلك حرصه، على إقامة توازن دائم يخدم ويحترم مصالح أبنية سلطته وحلفائها الاجتماعيين، وفى الوقت ذاته يحافظ على شرعية وجودها لدى المتضررين من سياساتها بشتى الطرق، بدءا بالرشوة الاجتماعية والزبونية الضيقة، وانتهاءً بالقمع المادى المباشر والقاسى. ومنذ منتصف الثمانينيات بدأت مجموعة من الحقوقيين والمتحمسين للعمل الأهلى غير السياسى تقدم إسهامات تعمق مفاهيم المجتمع المدنى باعتباره الموازى الطبيعى لقوة الدولة وأجهزتها وفى أحسن الأحوال الفاعل الأساسى فى تجديد أبنية تلك الدولة.

ولكن هذه الإسهامات تنطلق غالبا من مدخل نظرى/ إيديولوجى وغالبا جزئى، لأنها إحدى منتجات مؤسسات بحثية غير معنية بالعمل السياسى المباشر. والمشكلة من وجهة نظرى هى اعتبار تلك الجهود ذات المدخل النظرى، والشق التحليلى المضاف، بديلا عن الإسهامات والتحليلات المنتَجة بغرض وضع سياسات وبدائل ترجح خيارات وبرامج التيارات السياسية وتعبر عن صدق انحيازاتها الاجتماعية، من حيث مدى قابلية تلك السياسات للتطبيق، وما يستتبع تلك القابلية من آليات للتنفيذ، ثم أخيرا انعكاس تلك التطبيقات ماديا على الواقع، وهو ما يعتبر معيارا مباشرا لادعاء التعبير عن مصالح فئة أو جماعة اجتماعية معينة.

هذه المهمة ليست مهمة مثقفين مستقلين أفراد، بل مهمة مجموعات تحترف السياسة بغية الوصول للسلطة مثل أى حزب فى العالم. ولكن هل يوجد فى الواقع المصرى تيارات سياسية، أيا كانت، تسعى فعلا للوصول للسلطة بما يحفزها على تقديم تلك الإبداعات؟ وإذا توافرت النية، هل هناك ممارسات توحى بجدية ذلك فى ضوء الشروط السياسية غير الديمقراطية السائدة فى مصر؟ الإجابة من وجهة نظرى وبدون أى قدر من التعسف هى لا. وسأحاول أن أدلل على هذه الفرضية بعرض مجموعة من التصورات من داخل خطابات تلك التيارات، وبرصد بعض ممارساتها غير الجدية وغير الفعالة فى تعاطيها مع إشكاليات واقع شديد التأزم مثل الواقع المصرى .

حمدين صباحى أثناء ترحيله إلى السجن عام 1997 لمعارضته قانون الإيجارات الزراعية 

أزمة التعايش مع واقع يتدهور باطراد منذ 30 عاما وتبريراته

دعا الرئيس السادات لتأسيس منابر سياسية لليمين واليسار والوسط من داخل تنظيم الاتحاد الاشتراكى فى منتصف السبعينيات كمقدمة لتحولها إلى أحزاب سياسية ثلاثة (الأحرار والتجمع ومصر العربى الاشتراكى والذى تحول بعد فترة قصيرة إلى الحزب الوطنى الديمقراطى)، لحقت بها فيما بعد أحزاب العمل الاشتراكى والوفد، لتشكل معا المشهد السياسى الرسمى فى مصر فى أواخر السبعينيات، إلى جانب حضور أساسى للتيارات “المحجوبة عن الشرعية”، أى الإسلاميين والشيوعيين.

يجد المتأمل لذلك المشهد السياسى أن حزب التجمع اليسارى استطاع أن يضم عضوية عند بداية تأسيسه جاوزت التسعين ألفا، وكان توزيع جريدة الأهالى الناطقة بلسانه يجاوز المائة وعشرين ألفا، وهو رقم كبير جدا بمقاييس ذلك الوقت. وبدا وكأن اليسار هو المعارضة الأكثر قوة وجرأة فى مصر، حتى أن الدولة المصرية اتهمته بالمسئولية عن انتفاضة 18 و19 يناير 1977، وهى تهمة حتى وإن كانت افتراء، وهى كذلك، تعكس اعتبارا لهذا التيار يجعله جديرا بتحميله المسئولية عن تحريك ملايين المصريين.

كان الظن أن الرابحين فى هذه اللوحة الحزبية هما اليسار والوفد العائد بزخم أمجاد ما قبل يوليو 1952. ولكن بعد أقل من 8 سنوات تبين أن الرابح فعلا هو التيار الإسلامى بأجنحته، مما دفع حزبا سياسيا حصل على حوالى 6% من الأصوات فى الانتخابات البرلمانية عام 1984، وهو حزب العمل الاشتراكى، إلى تغيير مرجعيته السياسية والنظرية بشكل كبير، مُخاطرا بالانشقاقات، ليكون أكثر التصاقا وتواؤما مع طرح الإسلاميين .

التفسير الدارج لما حدث هو أن الدولة قدمت دعما غير مسبوق للتيار الإسلامى، وأمنت له حرية الحركة والتنظيم، بينما واصلت قهر وملاحقة وتشويه اليسار. وهذا تفسير مبتسر من وجهة نظرى. صحيح أن الدولة دعمت التيار الإسلامى، ولكنها أيضا وجهت له ضربات من حين لأخر. كما أن هذا الدعم لا يفسر تنامى نفوذه بالشكل الذى أدى إلى اغتيال السادات نفسه وسيطرته الواسعة على محافظتى أسيوط والمنيا وبعض أحياء القاهرة. كذلك لم تكن الضربات التى تعرض لها اليسار فى ذلك الوقت بالوحشية التى تحول دون تحركه بفاعلية وسط جمهوره المفترض. وإذا افترضنا أن حملة الدولة ضد اليسار بتياراته كانت كافية لتقليص نفوذه، فهل ينسحب هذا أيضا على حزب الوفد الليبرالى الذى تناقصت شعبيته باطراد دون أن يُضطهد أمنيا؟

الواقع أن الحديث عن قمعية وسلطوية النظام فقط أشبه بإعادة اكتشاف الشمس واختراع العجلة. كما أن اعتباره مبررا كافيا للانحسار الجماهيرى هو هروب من الاعتراف بالأزمات التاريخية للتيارات السياسية فى مصر منذ منتصف السبعينيات. ويحضرنى هنا مقولة ذكية لمناضل سابق أنه إذا كان هناك صراع بين طرفين يتحمل الطرف الأول 95% من المسؤولية عنه، فإن إصرار الطرف الثانى على رؤية هذه الـ95%، لا يعنى فى الحقيقة عجزه عن حل المشكلة فحسب، بل رغبة أيضا فى عدم حلها.

المشكلة إذن أعمق من أن تفسَّر بالقمع وحده. ويمكن القول ببساطة أن “التيارات السياسية” فى مصر ليست تيارات سياسية بالمفهوم الشائع عالميا، وإنما هى استيعاب سياسى لتيارات فكرية. وهو أمر مختلف تماما عن الحركة السياسية، التى من المفترض أن تعبر بالأساس عن فئات اجتماعية أو جماعات سكانية وتعمل على دعم وتقوية النفوذ الاجتماعى لها، حتى قبل أن تصل بها إلى السلطة، وذلك عبر طرح برنامج قابل للتطبيق فى ضوء معطيات الواقع المحلى والعالمى، وفى ضوء رؤية هذا التيار السياسى للتحديث وتجلياته. وهى عملية سياسية وتقنية يجب أن تكون خلاقة ومبدعة ولا يمكن أن تتحقق إلا من داخل تيارات عميقة الإيمان بالديمقراطية.

ولكن ما حدث ويحدث حتى تاريخه هو اختزال الحركات السياسية، أو “إمكانياتها الكامنة”، فى خطابات لها قشرة إيديولوجية تضع حلولا للواقع انطلاقا من المسلمات الإيديولوجية لأصحابها. فعلى سبيل المثال أكد ضياء الدين داود رئيس الحزب العربى الناصرى فى حوار معه فى جريدة “نهضة مصر” على ضرورة العودة إلى الاشتراكية التى كان معمولا بها فى الخمسينيات والستينيات، لأنها تمثل حلا لجميع المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التى تواجهها مصر. وعلى المستوى الإجرائى قال أنه سوف يحل أزمة البطالة بتدخل حكومى عاجل لتوظيف الشباب مع زيادة استثمارات الدولة فى بناء المصانع. يقول هذا فى بلد لديه الآن حوالى 7 ملايين يحصلون على رواتبهم من الحكومة، يشكلون حوالى ثلث القوة العاملة المصرية. هذا الطرح فى رأيى لا يمكن أن يُناقش سياسيا، لأنه بأمانة غير جدى أساسا، إنما هو شكل من أشكال إراحة الضمير، ويضمر عمليا مطالبة بالتنفيذ من التشكيلة الحاكمة الحالية عبر تصويب خيارتها؛ فإن هى نفذته كان ذلك رائعا، وان لم تنفذه فتلك كانت كلمة للتاريخ.

وجسد ذلك المنحى أيضا مهدى عاكف حين أعلن بوضوح فى 31/12/2004 أن الإخوان المسلمين هم جند مبارك، إذا نفذ “مطالبهم الإصلاحية”. وهو تصريح يعكس ذهنية موغلة فى المحافظة ومتحررة من أية مسئولية، وتسلم بالكامل لطبقة سياسية حاكمة شديدة الجهالة، تنجح يوميا وبدأب فى تحويل مصر إلى بلد يحتل مكانة بارزة بين الدول الكبيرة الأكثر تخلفا.

 كان حزب التجمع فى عهد رفعت السعيد عنوانا للفشل الحركى والكسل الفكرى لليسار الرسمى

الأمر يختلف نوعا ما مثلا فى رؤية حزب التجمع من خلال مبادرته للإصلاح السياسى فى مصر. ولكن هذه الوثيقة كشفت عن تنازع رهيب بين ما أسميه مبدأ الإيديولوجيا أولا، وبصرف النظر عن الواقع، وبين الطرح البرنامجى ذى النزعة العملية فى ضوء الانحيازات الإيديولوجية. فمن جهة اعتبرت المبادرة الإصلاحية للحزب أن التجارب الناجحة فى آسيا وأمريكا اللاتينية وثيقة الصلة بجذب رأس المال الأجنبى، والذى لا يبدأ بالتدفق على أى بلد إلا إذا حقق تقدماً اقتصاديا ورفع معدل الادخار والاستثمار وحشد موارده المحلية لأقصى حد ممكن. وذلك على خلفية تحقيق إصلاح ضريبى ومالى أساسه تحقيق العدل الاجتماعى عن طريق إعادة توزيع الدخل القومى. ولكننا نجد فى نفس الوثيقة تأكيدات كثيرة على أن المطلوب سياسات للتنمية الوطنية المستقلة، تعتمد على القوى الذاتية المصرية، وعلى مواصلة المعركة ضد الخصخصة. فنصف الوثيقة ينتقد النصف الآخر، تخوفا فيما يبدو من أن يُساء فهم التجمع لا سمح اللـه.

توضح هذه الأمثلة كيف أصبحت إيديولوجيات التيارات السياسية العلمانية أشبه بفرامل تكبح قدرتها على الإبداع. وما دامت الخطابات نصف إيديولوجية ربع برنامجية، وقابلية تحقيقها مرهونة بعودة حقب زمنية صارت تاريخا الآن، أو توافر شروط دولية بعينها لم تعد موجودة، أصبح من السهل على التيار الإسلامى، والذى لاشك فى رجعية خطابه، أن يقدم ذاته كأحد تيارات النهضة والتحديث!! وبما أن الصراع هو تراشق فكرى بالأساس، فإن الحديث عن نهضة وتحديث فى بوتقة إسلامية يصبح ممكنا، بل وباعثا على الأمل وشاحذا للهمم، وهو ليس أقل وجاهة فكريا من الحديث عن الاعتماد على السواعد المستقلة، أو العودة إلى برنامج الستينيات. ولذلك يلقى هذا الخطاب رواجا شديدا، خاصة لدى الكثير من شباب الفئات الوسطى التى ترعرعت منذ نهاية السبعينيات فى ظل إعلام شديد المحافظة والديماجوجية فى آن واحد .

ولطالما سخر الليبراليون والقوميون واليساريون من الإسلاميين لعدم وجود برنامج واضح لهم. ولكنى أتساءل عن وجود برامج لتلك التيارات قابلة للتطبيق موضوعيا وديمقراطيا، لا برامج مطروحة بهدف تبنيها من قبل السلطة، أو “تخليص الذمة”. ولا عجب أن سخرت بعض قيادات الأخوان المسلمين من طروحات التيارات الأخرى باعتبارها دروشة سياسية .

لقد نجح النظام الحاكم فى استيعاب خطابات المعارضة إيديولوجيا، بادعاء تمثيل الجميع، وبالاستعانة بالمعارضة وخطاباتها بالقطعة وفى قضايا بعينها، وبخلق جبهات وهمية، تارة فى مواجهة التدخلات الأجنبية، وتارة أخرى فى مواجهة الإرهاب. كذلك جعل النظام المعارضة فى حالة دفاع دائم عن النفس عبر خطاب التخوين أو خطاب الإضرار بالاستقرار، وهو سلاح تستخدمه تيارات المعارضة أيضا مع بعضها البعض. ويحقق النظام هذا الاستيعاب ماديا باتباع سياسيات أمر واقع، نقلت الواقع المصرى إلى وضع أصبحت فيها الخطابات الإيديولوجية الصرفة عاجزة عن تقديم طروحات عملية فى سياق منسجم، مما جعل المعارضة إما فى موقف المصفق (صراحة أو ضمنا) لبعض إجراءات السلطة، أو ناقدة وهى باكية وهائجة، بحس مراهق فى معظم الأحوال.

 كان الإخوان المسلمين ركنا أساسيا من أركان النظام السياسي المصرى منذ منتصف السبعينيات

والحقيقة أن عدم ربط المعارضة بين القدرة على صياغة برامج بديلة للحكم وعملية الوصول للسلطة نفسها، والتركيز على مسائل الإصلاح السياسى والدستورى باعتبارها شرط التنافس بندية مع السلطة، واعتبار قضايا التعليم والصحة والإنتاج والخدمات قضايا تُطرح فقط بمناسبة نقد الدولة و”فضح” سياساتها، كل ذلك يعكس ميولا غير ديمقراطية لدى التيارات السياسية المعارضة. ناهيك عن أن الأصل فى قابلية البرامج للتطبيق ليس فقط تماسكها وواقعيتها وتبنى تيار سياسى لها، بل بالأساس وجود قوى وجماعات اجتماعية تستطيع تحويل البرامج إلى أولويات على الأجندة السياسية، وهى عملية لا تشترط تمثيلا سياسيا مسبقا فى السلطة.

الخيال السياسى فالفعل السياسى فالبدائل

تنقسم التيارات السياسية “الفكرية” فى مصر إلى تيارات مناهضة للدولة وتيارات معارضة للنظام. التيارات الأولى، وهى أقلية، ترى أن هدف نضالاتها هو الاستيلاء على السلطة وإحداث تغيير جذرى فى المجتمع. ويهدف أى تكتيك سياسى أو انتخابى أو دعائى فقط إلى تمهيد الطريق لهذا التغيير الدراماتيكى، وبالتالى ليست أية خطوات إصلاحية إلا إطالة فى عمر نظام يجب إزالته. وفى حالة عدم القدرة على التعاطى العنيف والصدامى مع هذا النظام يكون الفضح والتشهير هو الوسيلة المستقيمة للممارسة السياسية، وتصبح المطالبة بالديمقراطية جزءا من حرية الفضح والتشهير. أما التيارات الأخرى “المعارضة” فمن المفترض أنها تقر بشرعية شكل الدولة الحالى، وتعمل على تحقيق التغيير السياسى بالطرق السلمية. ولكن حين تفشل المعارضة فى مقارعة النظام كَنِد، وتيأس ويهبط سقف طموحاتها إلى عضوية رمزية فى مجلس الشعب، تصبح المطالبة بالديمقراطية فى جوهرها مجرد مطالبة بتوسيع هامش حضورها السياسى المحدود أصلا وفقط .

لقد حافظ النظام الحاكم على مسافة رهيبة بينه وبين التيارات السياسية المعارضة، من أقواها إلى أضعفها، واستطاع أن يحتكر الخيال السياسى قبل أن يحتكر القدرة على الفعل السياسى. فمثلا هناك عدد من الملفات لا تتعاطى معها تيارات المعارضة أساسا، باعتبارها من المحرمات. ولا اقصد هنا التعاطى الإعلامى أو الجماهيرى، بل المساهمة النظرية/ السياسية. فالحديث عن قدرات مصر العسكرية واستراتيجياتها فى ضوء توازنات القوة العالمية ملف لا ترى المعارضة أنها أهل للتعاطى معه. وكذلك تتعامل المعارضة مع أزمة تداعى الهياكل الإدارية للدولة بما أدى إلى ما يشبه الفشل الوظيفى كمجرد عَرَض من أعراض الفساد، بل وتختزله غالبا فى النهب والاختلاس واستغلال بعض المسئولين المنحرفين لوظائفهم، دون الخوض فى منطق وآلية إدارة الأجهزة البيروقراطية فى مصر.

وعلى مستوى العلاقات الإقليمية ليس لدى أى تيار سياسى تصور واضح ومباشر وصريح عن العلاقة مع إسرائيل بعد 26 سنة من إبرام اتفاقية السلام ووجود علاقات دبلوماسية والتزامات متبادلة معها. فبرغم أن قضية الصراع العربى الإسرائيلى تحوز القدر الأوفر من اهتمام هذه التيارات، فإننا لا نسمع إلا عن رفض التطبيع شعبيا، أو التأكيد المستمر على أن الصراع هو صراع وجود لا صراع حدود. وعلى الجانب الأخر هناك من يرى فى إسرائيل مشروع صديق وجار وفقط، ولكننى لم اقرأ أى إسهام يقدم رؤية للتعامل مع إسرائيل فى ضوء أنها دولة ليست صديقة على أقل تقدير، وحاربناها على مدى30 عاما، وعقدنا معها سلاما منذ 26 عاما. أتحدث هنا عن تيار سياسى يريد ممارسة الحكم أو يسعى إليه، وليس عن تيار سياسى دوره أن “يكشف ويفضح ويعرى” الحكم القائم.

لقد فشلت تيارات المعارضة خلال العقدين الماضيين فى أن تجتذب قطاعات ما أسميه النخب غير المدعوة. فالنظام الحاكم له زبائنه الفكريين والأكاديميين والمهنيين، وهم أقلية وسط محيط كبير من الكفاءات والمبدعين القادرين على تقديم إبداعات جماعية تتجاوز الأنماط الرثة الموجود حاليا. فإذا كان لدى تيارات المعارضة فرصة عملية لممارسة دور فى الفترة القادمة، فإن ذلك يتوقف على مكافحة نزعاتها الإيديولوجية الاستبعادية، وفتح مجال للتفاعل القائم على الندية مع قطاعات من الأكاديميين والقضاة والمهنيين والفئات العمالية غير البيروقراطية، وهى قطاعات صاحبة مصلحة اجتماعية، لا “نظرية”، فى عملية التغيير الديمقراطى.

تمخض المشهد فولد عبد الحليم قنديل

والحقيقة قد نلمح هذا النزوع العملى لدى برامج تنظيمات سياسية جديدة مثل حزب الغد، وبشكل أقل كثيرا فى برامج حزبى الوسط والكرامة. ولكنها تعكس فى حالة الحزبين الأخيرين رغبة فى التجديد وإحساسا بالأزمة من قِبَل نفس التيارات الإيديولوجية الفكرية التى تشكل مرجعيتهما، أكثر منها رؤية سياسية تعبر عن مصالح حقيقية موجودة، لا متخيلة، لقطاعات فى الواقع المصرى. فما زال المدخل القائم على أولوية تحديد الهوية القومية أو الدينية باعتبارهما بواعث نهضة الأمة يحكم خطاباتهما. وما زالت أسئلة من نوع هل نحن عرب مصريين مسلمين أم مسلمين عرب مصريين هى الأساس الذى يعرف به الحزبين نفسيهما. وبرغم توافر نزعة واضحة لديهما لتجاوز الأنماط السائدة من الخطابات الإيديولوجية الضيقة، إلا أن مدخل خطاب الهوية كفيل بقصر الجدل السياسى على قضايا بعينها، كالصراع العربى الإسرائيلى والخصوصية الثقافية الخ..

إن الدعوة لحوار بين تيارات المعارضة هى خطوة تالية لقيام كل تيار بإعادة بلورة تصوره الخاص عن السياسيات الفعلية التى يتبناها، وذلك عبر انفتاح فكرى وعملى وغير سلطوى على قطاعات من نخب الطبقة المتوسطة وقياداتها. وقد تكون الآلية المقترحة كخطوة أولى هى إنشاء منتدى حوار دائم يتفاعل مع ملفات الصحة العامة والتعليم والخدمات العامة وتوزيع الثروة القومية اجتماعيا وجغرافيا، كمدخل لتقديم إجابات على مسائل مصيرية ما زال يتم التعامل معها على أنها تكميلية وفنية.

ولكن هذا ليس مجرد اقتراح بإقامة منتدى، فإقامته تقتضى بالأساس مستويات غير مسبوقة من مكاشفة الذات بنواقصها. فالتيارات السياسية فى مصر جميعا (بما فى ذلك ما انتمى له أنا شخصيا)، بحاجة إلى نوع من أنواع النقد الذاتى والاعتراف بأخطاء الماضى والحاضر، ثم الاعتذار عنها. فحديث الإخوان المسلمين عن اختيارهم للوسائل المدنية فى الممارسة السياسية لا يستقيم إلا باعتذارهم عن تراثهم الطويل من العنف ومعاداة الديمقراطية ودعم الاستبداد السياسى والفكرى وهم خارج السلطة؛ وكذا بالنسبة للقوميين الذين يقودون حملة ضد طريقة اختيار رئيس الجمهورية دون أن يتذكروا أن مبدع كل تلك الآليات هو الراحل جمال عبد الناصر.

إن تجاوز المعارضة لأزماتها مرتبط باعترافها بوجود تلك الأزمات أصلا. والشروع فى العمل السياسى الجاد يتطلب وضع معايير للنجاح وللفشل، وآليات ديمقراطية، ومعايير للمحاسبة داخل تيارات المعارضة نفسها، وهو ما قد يسمح ببداية تنشيط لخيالها السياسى كمقدمة لإمكانية فعل سياسى يحنرم نفسه .

** نشر هذا المقال فى مجلة البوصلة فى أبريل 2005

 

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

كتبت هذه المقالة فى أول أعداد مجلة البوصلة فى ربيع عام 2005 وهى فى نفس الوقت أول مقالتى المنشورة باسمى  ، وهى تنتمى بالكامل إلى عالم ماقبل ثورة يناير 2011 من حيث الوعى بمفرداته وقواه السياسية وأفقه حينها ، ومن المفيد قراءته بأثر رجعى لفهم طبيعة الجدالات والخطابات فى ذلك الوقت وطبيعة النقد ” الردايكالى…

أترك تعليق