الهروب المستحيل من السؤال الاجتماعي

فى مايو 2011 ظبط المأسوف على عهده عصام شرف متلبسا بمحاولة ممارسة فعل ” الحكم ” . حاول حينها تمرير قرار بفرض ضريبة على ارباح البورصة ، كان رد الفعل اليوم التالى هيستيريا بمعنى الكلمة ، تحولت الصحافة المستقلة قبل القومية الى حالة اشبه بحالة الرجل الذئب المتحول ، عناوين اليوم التالى كانت من نوع .. مصر على حافة المجاعة .. وتنهار البورصة .. 40 يوما وينفذ احتياطى القمح .. وبالطبع تراجع عصام شرف عن القرار “الإشاعة ” .

مثلت فقط تلك الحملة الفورية المسعورة الجانب الغريزى لرفض الفكرة \ الاشاعة من قبل “صحافة الثورة ” . لكن الوجه الاكثر احكاما كان فى الحملات التى انتشرت فى الايام التالية والتى كان محورها السلفيين تحديدا ، كيف انهم عازمين على هدم مقام الحسين بعد ان هدموا عشرات الاضرحة  فى طريقهم للقاهرة ، ذلك شرطا ان السلفيين يهدمون الاضرحة بانتظام منذ عقدين فى ارياف مصر وفى حروب محلية لم ولن يعرفها معظمنا ، ثم اخيرا قصة المواطن القبطى الذى قطعت اذنه فى قنا رغما من ان ممارسة العنف البدنى ضد المسيحيين بغرض التاديب هو اشبه بالفلكلور الشعبى فى العقديين الاخيرين فى بعض مناطق الصعيد . والخلاف اللفظى الغير منضبط مع المسلمين قد ينتهى احيانا بإخرس يا ابن صليب الكلب والامر الاخير يحدث من زمن طويل .

لم تكن تلك التغظية الصحفية مختلقه بالطبع ، لكن توقيت اطلاقها تزامن بالفعل مع ازدياد اضرابات العمال والموظفين والتى تعمدت محطات التلفزيون المستقلة ” ذات الحس الثورى ” انذاك عدم تغطيتها و تجاهلها كإنها لم تكن ، فيما يشبه بروتوكول غير مكتوب مع المجلس العسكرى ، وتناغما مع مزاج قطاع معتبر من الذين تحمسوا للانتفاضة التى اطاحت بمبارك ثم كف حماسهم تماما حين تجرأ البعض بالحديث عن تعميقها للحد الذى يطول علاقات الملكية او توزيع الثروة بالشكل الذى ربما ينعكس على نمط حياتهم كقطاعات ميسورة من الطبقة الوسطى ، بل فى بعض الغرف المغلقة لإجتماعات بين المجلس العسكرى و جمهور كبار ومتوسطى رجال الاعمال تلك الفترة كان السائد من الكلام داخلها هو نداءات صارخة و باكية  للجيش من اجل الحسم العنيف فى مواجهة الاحتجاجات الاجتماعية وبلغة فاشية وبربرية صريحة.

ومع تواتر حملات الترويع الاقتصادى  والحديث عن توقف لعجلة انتاج لم اشاهدها تدور طيلة سنين حياتى ثم  تغذية الاستقطابات الدينية العلمانية. تحولت بعضا من تلك الكوابيس الى واقع  تحقيقا لمقولة اللى يخاف من عفريت يطلعله  . ففى يوم 29 يوليو  2011حل السلفيون فاتحيين على ميدان التحرير من كل ثقب من ثقوب اقاليم مصر الفقيرة ،  فى مشهد لم يتكرر بعد ذلك  بنفس الروح والكيفية .. هاتفين الشعب يريد تطبيق شرع الله .. ومبايعيين المشير طنطاوى اميرا .. ذهبت يومها التحرير وشاهدت عينى  وشمت انفى  فقر وبؤس مئات الالاف من البسطاء تحميهم فقط لحاهم ، فلو كان نفس الحشد المهول من ذات الطبقات الاجتماعية وهتف ” ثورة  او حرية او عدالة اجتماعية ” من دون لحى تعطي لجمعهم الهيبة اوهتاف لشرع الله  يحصنهم بالشرعية ، ربما لما تردد الفريق رضا حافظ قائد القوات الجوية وبادر من تلقاء نفسه بقصف الميدان بقاذفات الاليوشين السوفيتية القديمة .

 قطعا الاستقطاب الدينى العلمانى ليس مخلوقا من عدم ، لكن النفخ فيه خاصة فى الشهور الاولى التى تلت سقوط مبارك كانت اشبه بحفلة زار لطرد الشبح الشعبى الذى يجول بعنف فى القاهرة وسائر المدن واسمه ” عايز حقى ناشف يا بتوع الثورة ” ، لقد اضرم النار فى الاستقطاب الدينى العلمانى عقب نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية فى 19 مارس 2011 وزاده اشتعالا الكأبه الطائفية فى امبابه. الا انه اخذ كتكئه مبالغ فيها بشكل هيستيرى ليشكل طرفى الاستقطاب النخبوى فيه ” بين شيوخ سلفيين ومثقفين وطنيين ” مجالا لتحصين الخطاب السائد وسط القطاعات المنضمة حديثا للفعل السياسى من طرح لإستحقاقات المسألة الاجتماعية بشكل اكثر حدة . ويبدو ان هذا الاستقطاب مريحا للطرفين ولمصالحهما الطبقية حيث تتم معاركه بالاساس فى المجال الثقافى والاعلامى ولا يشترك فيه السواد الاعظم من المصريين ولا تتجاوز كلفته ما تكلفه المصريين بالفعل من مضايقات وتمييز لسنوات طوال مضت . اى انه فى قول اخر شكل من اشكال اعاده انتاج  لصراع بائس معلوم الحدود والتخوم .

من جانبهم لم يسكت الاخوان المسلمين امام تلك الفوضى كاملة الابعاد التى فجرتها الموجة الثورية الاولى فقد رأوا ما لم ترى عين ، من ناحية حراكا شعبيا ترفع جموع منه فى كل بقعة شعارات العدالة الاجتماعية كحق طبيعى و بإنتظام لاول مرة فى تاريخ هذا البلد و فى مشهد اخر فتاة  كعلياء المهدى تتعرى علنا على مدونتها فى كسر لمحرمات لم يكن من المتصور حصولها من شهور قليلة سبقت . تلك الفوضى المفاجأه وضعت الاخوان امام مأساتهم التراجيدية المسماه ” احمل وزر جلادك القديم ”  حفاظا على ما تبقى من النظام الاجتماعى ” المهدد ” .

الاخوان كفريق محافظ .. لم يكونوا  الا الشريك المستعبد بحساب والمستبعد بحساب اخر 3 عقود ، وقد كان جل امالهم شراكة من درجة رابعة مع نظام مبارك الذى لم يتوانى عن التنكيل بهم دوريا حتى واننا رأينا فى ذلك سنة تقليدية من سنن السياسة المصرية . ومن ارتضى واكتسب لنفسه موقع المعارض  الحقيقى والحصرى لنظام متهالك صابرا على كل عذاباته  ومستعدا فى ذات الوقت للشراكة وفقا لشروط ذليلة لما يقارب 35 عاما . لا مصير له حال سقوط هذا النظام الا وراثة جثته . انها بحق واحده من اعقد العلاقات بين نظام استبدادى ومعارضته تاريخا ومألا.

الجماعة والجثة ممثلة فى قلبها الصلب القوات المسلحة. يشكلان  الان معا ائتلافا لتجديد شباب السلطة  راضين ام مجبرين  سيان . وامام وقع تلك البذاءة التاريخية التى لا تتحملها قوة الثورة الشابة التى فجرت اجسادها فى النظام يوم 28 يناير 2011 ، ربما يستتب لهما الامر لحين و لكن بايقاع شديد الفشل . لا احب ان اراهن على انفجار اجتماعى كبير بينما القوى الديموقراطية والاشتراكية بهذا المستوى الحالى من التعاسة التنظيمية ولكن ايضا خارج منطق الرهانات والرغبات ، فإن فرص حدوث انفجار عفوى عارم  اصبحت اقل كثيرا لان حق الحركة والاحتجاج صار مكفولا واصبح من المستحيل سلبة فى الامد القريب  . اعتقد ان بعد استقرار قصير لائتلاف السلطة الجديد ستبدأ حرب استنزاف اجتماعى له بموجات مطلبية واضرابية متواصلة من قبل فئات لا تعبأ كثيرا بجدالات الدستور وفى ظل غياب لقبضة الشرطة القاسية التى يبدو ان امامها زمن طويل لاستعادة عافيتها .

 فماذا سيفعل الاخوان ورثة الجيفة امام تحدى حرب الاستنزاف الاجتماعي التى تبدوا قدرا لا فكاك منه ؟ امامهم خيارات كثر . لكن عهدى بهم يدفعنى قطعا للتفكير باكثر الاحتمالات سوءا . ربما يتفق كثير من الفرقاء المدنيين والاسلاميين والعسكريين على ان مشكلة الدولة المصرية تتمثل اساسا فى انهيار هيبتها ، وان مشكلة مشروع جمال مبارك للتنمية الاقتصادية كان شخص جمال مبارك نفسه ، نرى السيد حسن مالك القيادى فى الاخوان المسلمين يثنى على رشيد محمد رشيد وسياساته مكررا المقولة التاريخية التعيسة ” السياسة والرؤية صحيحتان  لكن العيوب كانت فى التطبيق “

 امام مطلب عودة هيبة الدولة  وانجاز نمو اقتصادى بدون اى تضحية اجتماعية  وفى ظل حرب استنزاف شعبية اجتماعية اتية لا ريب . سيضيق صدر الاخوان وصدر حلفائهم المدنيين و سيواجهون ” الشعب ومطالبه المشروعة ” ربما بقفزة هائلة اخرى نحو المجهول وللخلف. وقتها لن يكون امامهم من خيار الا تهديد ” مدنية الدولة ” ولأول مرة بالفعل ، املين فى استعادة اى هيبة للدولة باسم ما سيتبقى من هيبة الدين وتمريرا لبرنامج اقتصادى مر وقاسى افتقد جمال مبارك وتحالفه الشرعية  اللازمة لتحقيقه ، وقتها لن يندب الندابين البرجوازبين على دولتهم المدنية او قل حياتهم المدنية الحصرية لهم فقط . فحينها قد يكون وقع الامر اعظم قسوة من خيالهم الطرى . وللمفارقة تصبح مأساة هولاء شبيهة بمأساة الاخوان فى وراثة الجثة ، سيفقدون دولتهم وحياتهم المدنية العصرية يوم يطالب ويصر باقى الشعب على خلق شروط  اقتصادية واجتماعية تضمن تمتعه بها هو الاخر  .

يقينا لن تنجح تلك القفزة الرجعية وسترتد وبالا على ابطالها . لكن مصر الثورة تعلمنا ان ثمن التعلم من الاخطاء والخطايا ربما يكون اغلى من حياة مرتكبيها .

 

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

فى مايو 2011 ظبط المأسوف على عهده عصام شرف متلبسا بمحاولة ممارسة فعل ” الحكم ” . حاول حينها تمرير قرار بفرض ضريبة على ارباح البورصة ، كان رد الفعل اليوم التالى هيستيريا بمعنى الكلمة ، تحولت الصحافة المستقلة قبل القومية الى حالة اشبه بحالة الرجل الذئب المتحول ، عناوين اليوم التالى كانت من نوع…

أترك تعليق