فى بؤس النوستالجيا .. كسلاح للعجزة الرجعيين

مصطفى النحاس باشا ووفده

سأكتب مقالا قصيرا فى النوستالجيات  الجماعية وكيف كانت دائما  معطفا لكل حس رجعى ولكل لحظة اسنة وكيف كانت سيفا مسلطا على التقدم حتى لو ادعت العكس ، سأهاجم النوستالجيا والنوستالجيين بضرواة وقسوة  تجعلنى ابدأ  بإستثناء النوستالجيا الشخصية من هذا النقد ، وانا استثنى مشاعر الحنين للماضى  المصاحبة  لكل فرد لأنها جزء من طبيعة ضعفنا الإنسانى فى علاقتنا كذوات فردية بعدونا الأشرس الا وهو الزمن  وكذا وفى علاقة الإنسان الفرد ويوميات عالمه الحالى حالما عجز عن مواجهة قسوة تحدياته فيحن الشغيل الى طفولته ولحظات  اللعب والتحرر من المسؤولية ويحن العجوز الى شبابه والى لياقته الصحية والنفسية والذهنية ، نحن البشر لدينا حنين لذكرياتنا السمعية والبصرية مع اعزاء غادروا حياتنا  ولتجارب لم تكتمل وللحظات بعينها ربما بلا مبرر واضح .

ولأبدأ بأن النوستالجيا الجماعية  وبدرجاتها المختلفة  هى تعبير عن عجز معاصر فى مواجهة تحديات الواقع   او تعامى مقصود عن قراءته نتيجة للتناقضات الذاتية والموضوعية للنوستالجيين فى علاقتهم بحاضرهم ، بل وربما الأمر يتجاوز اللحظة الراهنة وهى تراكمات لهذا العجز تتوارثه اجيال عن اجيال يتحدث فيه كل جيل عن  ماض ما اجمل  ، و تتزايد جرعات النوستالجيا ودرجاتها بزيادة كم ونوع  الأسئلة المعاصرة المطلوب الإجابة عنها  والهرب منها ، بحكم اننا اختبرنا تجربة ثورية  فيمكننا القول ان  النوستالجيات ترتد  الى حدودها الدنيا  فى لحظات الزخم الثورىحيث يصبح البشر منخرطين بالكامل فى صراعات لحظتهم و تشعر الجماعات انها امام امكانيات تأسيس لإجتماعات عامة جديدة وعقود اجتماعية انضج ويجتاحهم يقين بإمتلاك المصير والمستقبل  .

لم الحظ  فى  الشهور الأولى من الثورة المصرية  حس نوستالجى من معظم الفاعلين بالرغم من ضبابية طروحات الثورة وعموميتها  الا ان طرح  سؤال الحرية كفكرة وممارسة وثمن  مدفوع جعل كثير من اشباح الماضى تتوارى حتى تلك الأشباح المهيمنة على وجدان عشاقها ، لم ارى فى تلك ايام شباب ناصريين يرفعون صور عبد الناصر و لقد قتل اسامة بن لادن فى مارس ومر الأمر سريعا على منتسبى الاسلام السياسى الراديكالى لانهم  يرون انفسهم على عتبة  تمكين تاريخية جديدة  ، فى شهور ثورة يناير الأولى كانت سيرة الحنين للتاريخ  تأتى على محمل النقد و الندية  لا الضألة والشعور بالإنكسار  والدونية امامه ، و تحدث الوافدين الجدد على السياسة بأريحية شديدة عن الجمهورية الثانية .

وحتى عالم الخمسينيات المصرى ما بعد يوليو 1952 كان عالم بلا نوستالجيا .. فشباب الظباط  الواثبين على السلطة يعدون الشعب بحكم جديد وعهد جديد تحت قيادة شابة لايتجاوز اكبرها سنا 35 عاما ، لقد سموا الماضى بالزمن البائد وكان النظر للأمام هو العنوان العام ، كانت لحظة تأسيس ومغامرة شكلت الواقع الذى نعيش تبعاته الان ايا كان رأينا فيه ، ولكن الثابت ان النوستالجيا كانت فى حدودها الدنيا فى عيون من اتخذوا كل تلك القرارات السريعة التى غيرت مصر الى حد كبير لم يكن جمال عبد الناصر ابن الرابعة والثلاثين يتحدث عن مثل اعلى له كما يتحدث السيسى الان ابن الثانية والستين عن ناصر او السادات كمثل عليا له.

ولأننا من الصعب وصف الثورة المصرية بإنها ذات النوع من الثورات الذى يقدم للبشر نموذجا جديدا للوجود والإجتماع والفضائل الانسانية ، بالتالى هى ليست من النوع الذى قدم طروحات راديكالية فى اتجاه تأسيس جديد لوجود  مشترك  يسمح بالغلو فى الحلم بتحرير الإرادة الكاملة  للحاضر من قيد اى ماضى ، فربما يكون النظر لثورة انسانية عظمى كالثورة الفرنسية امر ذى صلة تلك التى طرحت  وقررت فى اكثر لحظات مسارها  تطرفا وقت هيمنة اليعاقبة جنوحا نحو تغيير كل شيئ بداية من خلق ديانات جديدة  كديانة عبادة الخالق الأسمى ، او  أمورا قد تبدو رمزية مثل خلق تقويم جديد يبدأ من تاريخ  اقتحام الباسيتيل وتسمية اعوامهم بالعام الاول والثانى والثالث من الثورة كنقطة الفصل التى يسمى التاريخ بما قبلها وما بعدها عوضا عن تاريخ ميلاد المسيح ، وكذا تسمية شهورا جديدة  بغير الشهور الميلادية وحتى  الغاء الأسبوع كوحدة و استبداله  بالعقد العشرى  ” الديكادى ” .

فى المقابل ومع انحسار احلام التاسيس الجديد وانسداد قنوات التغيير وازدياد المشاهد تعقيدا ، يقفز علينا النوستالجيون من كل السفن . والنوستالجيون فى واقعنا المعاصر نوعان ، نوع يتبنى نوستالجيا مادية لماض عاشه بنفسه او لماض لم يعشه لكنه مازال يحوز قدر من الإمتيازات التى اتت من زمنه وفى هذا السياق ممكن ان نفهم وجود  نوستالجيا لزمن حسنى مبارك من قبل من استفادوا من حقبته بشكل مباشر من طبقات مهيمنة ونخب لصيقة بها ،  ويمكننا ايضا ان نفهم نوستالجيا الطبقة العاملة الصناعية فى مدن المحلة وكفر الدوار ونجع حمادى واسوان لزمن عبد الناصر حيث حدث لتلك الفئات قفزات اجتماعية معتبرة  فقدوها بالتدريج لاحقا ، نوستالجيا هؤلاء لها اساس مادى يمكن محاججته ، بيد ان هناك نوع ثانى من النوستالجيا لأزمنه إما لم يعشها احد وتنتمى للزمن القديم والسحيق او عاشها عجائز على مشارف الموت مثل نوستالجية الإسلامى الصحوى لصدر الإسلام او نوستالجيا القومى المصرى لزمن الفراعنة وكذا نوستالجية من يسمون انفسهم ليبرالين  لعالم ما قبل يوليو 1952، هذا النوع من النوستالجيا اما مرتبط بكتب يقدسها اصحابها او بصور  و هى نوستالجيا ذات نزعة ايمانية ضعيفة الحس النقدى وتحمل فى عالم تصوراتها اشد قيم الرجعية والإغتراب والعجز فى ان واحد .

النوستالجيين دائما حين يتمثلون شخوصا واوضاعا اجتماعية فى الماضى فهم لا يتلبسون الا مواقع السادة  ، النوستالجيون الصحويون الإسلاميون مثلا لا يرون انفسهم الا فى موقع الفاتحين ، سيوفهم مضرجة بدماء النصر لايتخيلوا انفسهم ابدا عبيدا او اماءا  او طرفا عبثت به المقادير فهزم وفنا ،  كل فرد فيهم لا يرى نفسه الا  متلبسا لصحابيا مظفرا بين ايوان كسرى وابواب رومية  ، النوستالجى الفرعونى لانه يستدعى صورا اكثر قدما فهو لا يرى نفسه الا فرعونا او كاهنا لأمون او كاتب فى البلاط او قائدا فى الجيش لا يتخيل نفسه ابدا مزارعا محنى الضهر تأكله الشمس وتقتله قبل سن ال 25 حيث كان هذا  هو معدل اعمار فقراء هذا الزمن ، يتحدث  ” الفرعونى ” عن عظمة طقوس جنائزية لم تكن لتقام الا لأنصاف الألهة  ويتناسى ان عوام الناس كانت ارواحهم تهيم لانهم لا يحنطون وفقا لطقوس السادة ، هذا النوستالجى البائس فى حجرته  ليس اقل من فرعون  فى ذاته .

ولكن كيف ينظر ابن الطبقة الوسطى ليبرالى الهوى هو الاخر لحنينه ، وماهى جوهر نوستالجيته الموجهة لعالم الأربعينيات والتلاتينات ؟ ،  انه يستبطن  كذلك موقع القوة فى ذلك العصر فهو يعلم جيدا ان السواد الأعظم كانوا من الفقراء وربما اهله واسلافه هو شخصيا  كانوا من رقيقى الحال لكنه لا يرضى بأقل من موقعه الطبقى المعاصر مسقطا على ذلك الزمن ولا يضع احتمالا ولو صغير انه فى موقع المستضعف ، نوستالجيا هذا النوع من الناس هى محاولة تصور عالم معاصر  بأدواته التكنولوججية المتقدمة ونزعاته الإستهلاكية المفرطة ولكن على شاكلة ذلك  العالم القديم ، الذى لا يحتك فيه بالعامة حيث ينفصل طبقيا بشكل اكثر حدة ووضوحا عن فوضى الحاضر ، انه لا يريد رؤية هؤلاء الفلاحين الذى كان ربما هو واهله وقتها واحدا منهم ، انه يتوخى الهدوء فى مواجهة اكتظاظ المدينة الحالى  وضجيجها ، انه يتوخى المساحة الشخصية المادية التى يحرمه منه  الزحام والإكتظاظ الحالى ، انه يتوخى صحبة الأجانب والإكسلانسات ونمط الحياة الغربى الذى لا يعكره نزعة محافظية من السكان الأصليين المعزولين فى قراهم ، انه يتوق للسمت السلوك المترفع ادبا ولغة الطبقة الوسطى القديمة الخشبية ككناية عن تهذب هو لايمارسه هو شخصيا  ،  يبحث عن عالم نظيف الشوارع حتى لو كثير من رواده متسخين حفاة ، يريد هؤلاء وراثة موقع المستوطنين الاجانب فى حينهم ، وهو موقع  لا تكتسب ميزاته الا بسوءات الإستعمار الكولونيالى واستغلاله وتمييزه ، فيالها من نوستالجيا حزينة  ومستحيلة واستحالتها تتناسب طرديا مع اغتراب بؤس اصحابها عن واقعهم المعاصر .

و الغالبية العظمى من النوستالجيين ناس غير جاديين فى استرداد العالم الذى يحنون اليه ،  فالحنين كما اسلفنا حالة  عجز وشجن وبكاء اطلال مزيفة ولكنه ليس موضوع للفعل المادى  النشيط ، فالليبرالى اسير طبقته الوسطى اذ ينغمس فى توهمات عالم طبقته عن  الأربعينيات متغنيا بمصر  تصورها علمانية حديثة كانت موجوده يوما هو غير مستعد الان  لخوض نضالات جادة فى مواجهة الدولة  اسلامية النكهة والطراز من اجل تأسيس علمانية معاصرة ، ففى افضل الأحوال هو يتمنى ان يقوم جناح  ما  متوهم من داخلها بتنفيذ تصوراته الملتبسه عن الماضى والحاضر نيابة عنه او يقضى غالبية وقته فى  استجلاب صورا  قديمة بالأبيض والأسود  لماض لم يعشه احدا ” خالد منتصر نموذجا ”  .

** نشر هذا المقال بموقع جريدة المصري اليوم فى 12 أبريل 2015 .

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

سأكتب مقالا قصيرا فى النوستالجيات  الجماعية وكيف كانت دائما  معطفا لكل حس رجعى ولكل لحظة اسنة وكيف كانت سيفا مسلطا على التقدم حتى لو ادعت العكس ، سأهاجم النوستالجيا والنوستالجيين بضرواة وقسوة  تجعلنى ابدأ  بإستثناء النوستالجيا الشخصية من هذا النقد ، وانا استثنى مشاعر الحنين للماضى  المصاحبة  لكل فرد لأنها جزء من طبيعة ضعفنا الإنسانى…

أترك تعليق