محمد أبو الغار يتذكر مذلته الشخصية يوم 10 يونيو 1967

ذهبت للمنزل فى نهاية اليوم مهدود الفكر والعقل ، يعتصر الحزن قلبى ونفسى على حبيبتى الغالية مصر ودخلت حجرتى لا احدث احدا ولا اكلم احدا ، والعائلة كلها تبكى بحرقة شديدة وكريستينا وسطنا وقد اصابها الوجوم .

وفى مساء 9 يونيو 1967 تلقيت تليفونا من القصر العينى بأن احضر فى تمام الثامنة صباح اليوم التالى .. وبعد ليلة من الأرق جلوسا ووقوفا وصلت الى المستشفى قبل الموعد فوجدت جميع الاساتذة يتقاطرون الواحد بعد الأخر ، وعلمت أن الإشارة التليفونية وجهت من العميد بأمر من الجامعة لحضور الجميع حيث طلب من كل اعضاء هيئة التدريس التواجد بقاعة الإحتفالات الكبرى فى حرم جامعة القاهرة .

عندما وصلنا اتضح ان اعضاء هيئة التدريس بجميع الكليات قد تم دعوتهم لهذا الإجتماع وامتلأت القاعة، مكثنا نضرب اخماس فى اسداس، والكل مطرق فى الأرض ومذهول لما حدث للأمة والجيش . وفى العاشرة صباحا ، دخل الدكتور ” رفعت المحجوب ” .. رئيس مجلس الشعب لاحقا .. وكان يشغل وقتها منصبا قياديا مهما فى الإتحاد الإشتراكى فهو امين الفكر والدعوة، واعتلى خشبة المسرح ، وخطب المحجوب خطبة عصماء، تحدث عن الحرب وان امريكا خدعت مصر ، وأن الهجوم الجوى جاء من الغرب، ونحن كنا نتوقعه من الشرق ، وأن اهم شيئ الان هو الإلتفاف حول الزعيم وأن بقاء عبد الناصر هو الأهم بل هو كل شيئ.

ولم يصفق احد ، وكان الجميع فى حالة ذهول ، وفجأة رأينا هتافات منظمة من طلائع الإتحاد الإشتراكى من الشباب الذى يملأ الجزء الخلفى من بلكون قاعة الإحتفالات ولم يلحظهم معظم الناس ، فبدءوا يصقفون ويدبون بأرجلهم على الأرض ويهتفون : ” عبدالناصر .. عبد الناصر ” و : “لا .. لا للتنحى ” . ثم اكمل رفعت المحجوب خطابه المصيرى بأن علينا ان نتوجه الى قصر القبة الرئاسى للتوقيع فى دفتر التشريفات ومطالبة عبد الناصر بالبقاء ، ولتنظيم الذهاب والعودة فسوف نخرج الان صفا واحدا، والأتوبيسات الكبيرة فى انتظارنا تذهب بنا وتعود مرة اخرى للجامعة .

وانتهى الإجتماع التاريخى وخرج ما يزيد عن 1000 عضو هيئة تدريس وركبنا الأتوبيسات نحو قصر القبة . كان شعورنا ونحن نركب شعور قطيع كبير بلا عقل ينساق فى طابور طويل ككومبارس فى مسرحية مأساوية . مشيت فى الطابور مطاطئ الرأس اخجل من نفسى . كانت الطرق مزدحمة ببقايا بعض مظاهرات اليوم السابق تمرح فيه عشرين اتوبيسا مكيف الهواء فى شوارع القاهرة يوم 10 يونيو ذهابا وايابا من الجامعة للقبة مربكة ومعطلة للمرور الذى تسير فيه عربات الإسعاف ونقل الأدوية فى سرعة وضياع .

خلال الطريق بدأت بعض الأحاديث تعلو إحتجاجا على رحلة العبيد التى نساق اليها ، وكان المحتجون ثلاثة او أربعة ، وبدأت فى الإشتراك معهم وتأييدهم وإذا بإستاذى الدكتور صادق فودة يضغط على يدى، ثم يهمس فى اذنى بطلب السكوت وقال لى انك لاتضمن احدا من هؤلاء ، ربما هم جواسيس الحكومة . وصلنا قصر القبة ودخلت الأتوبيسات حوش كبير ، وكانت دفاتر التشريفات موضوعة على مناضد كبيرة فى الهواء الطلق تحت سلالم القصر الخارجية. ووقفنا طوابير للتوقيع . وكما حضرنا عدنا ، ولم يفتح احد فمه طوال رحلة العودة.

من كتاب على هامش الرحلة  – مذكرات محمد ابو الغار –  صدر عن دار الشروق  فى 2010 .

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

ذهبت للمنزل فى نهاية اليوم مهدود الفكر والعقل ، يعتصر الحزن قلبى ونفسى على حبيبتى الغالية مصر ودخلت حجرتى لا احدث احدا ولا اكلم احدا ، والعائلة كلها تبكى بحرقة شديدة وكريستينا وسطنا وقد اصابها الوجوم . وفى مساء 9 يونيو 1967 تلقيت تليفونا من القصر العينى بأن احضر فى تمام الثامنة صباح اليوم التالى…

أترك تعليق