إنحطاط الأفكار إلى هويات => شيوعية – نسوية – بلا أزرق

ربما من أعمق الحاجات اللى قالها كارل ماركس فى أحد مراسلاته هو أنه قال ” أنا لست ماركسيا ” ، وأعتقد أن ده كان أعمق وأبسط نقد ممكن حد يوجهه لفكرة تحويل الأيديولوجيات إلى هويات ، خاصة لما تدخل فى مرحلة الأنتشار الشعبى ويبقى أسباب ودوافع تبنيها متفاوت جدا ومختلف من شخص لأخر .

بالنسبة لمستوى واحد زى كارل ماركس فهو لما يقول أنا لست ماركسيا فده معناه أن مشروعه الفكرى لم يكتمل ولن يكتمل لأن مفيش مشروع فكرى مكتمل ،  وهى كانت رسالة لكل مثقف ومشتغل جاد بالفكر بخصوص علاقته بالفكر عموما وبالتقدم كمفهوم ، لكن على مستوى أكثر حركية المقولة دى كانت موجهة للأرهاصات الدوجمائية اللى هو كان شايفها وسط الأممية الأولى اللى بدأت تشترى كلامه كمفكر مهم ، وأزاى شاف أن الفكر لو قلب عقيدة فالأبتذال والقسر حيناله منه بشكل أو بأخر .

أعتقد دى حاجة مهمة جدا لكل أنسان جاد بخصوص همومه الفكرية ، ربما الأنحيازات مش بتتغير لأنها جزء من تركيبة الأنسان النفسية والوجدانية ، لكن الأفكار وبناها مش كده ، والأنسان بيقدر يضيف بقدر ماذاته قادره على ده من جواها و بحرية حقيقية ، جرامشى مثلا كان جرامشى مش لأنه فقط كان ماركسى لكن كمان بقدر ما كان جرامشيا ، وفى حالة ماركس و لأنه كان واعى جدا أنه مفكر مؤسس فقال بوضوح أنه مش ماركسى .

فى المقابل على الواحد تفهم تمظهرات الأبتذال الأيديولوجى الناتج عن شيوع الأفكار وتبنيها لدوافع مختلفة زى ما قلت سابقا ، على طريقة الناس اللى كل ما بتتكلم تقول أنا كشيوعى أو أنا كقومى أو أنا كنسوية أو أنا كناشط الخ الخ ، بس التفهم ده مشروط فقط بعدم قدرة الأبتذال الأيديولوجى على تحقير الفكر نفسه كعملية بتطور من نفسها ومن عقول ناس أخرين ، أكيد طبعا فيه ناس كتير بتتبنى أفكار لأسباب مظلومية فالأفكار بتتحول إلى محض أحقاد مقدسة ، لكن ضرورى جدا أن هؤلاء يتفرملوا عند حدود أعتبارهم وقود يحترق من أجل الفكر ، وقود يشغله فى التجربة وليس وقود لحرق الفكر نفسه .

لكن ده ميمنعش برضه من أن كان نفسى من فترة اعبر بحرية عن عدم ارتياحى لحد النفور من حالة معينة بتسيطر بإضطراد على اوساط حملة الأفكار الشغوفين ، وهى بتزيد فى حالة عالم ما بعد الحركة الطلابية 1968 فى فرنسا .

الحالة دى هى تحويل الايديولوجيات الى Lifestyle ، الشيوعية كلايف ستايل والنسوية كلايف ستايل والاكثر كاريكاتورية وابتذالا وهو الأناركية كلايف ستايل ، ومن السهل على الواحد انه يعزى الأمر الى فكرة ان التمثل البرجوزاى للأيديولجيات بيوديها فى النهاية للسكة دى وان المأل الطبيعى للتنميط الاستهلاكى فى راسماليات متحققة هو تحويل وابتذال الشيوعية الى كوفية وتيشرت جيفارا والنسوية الى قصة شعر انجيلا دافيز وتحول الأناركية الى سيادة سرطانية لحالة الهيبسترز التى لايمكن وصف بضانها وحقارة جوهرها .

لكن بشعر ان الامر محتاج تأمل اكتر فى علاقة الانسان الفرد كإنسان بالأيديولجيا فى الزمن ده ، وازاى ان مع التواصل السريع والحياوات المكشوفة والمعلومات المتاحة وسيادة منطق ” الحق ” ان ده بيودى فى الاخر لتماهى المستويات العامة مع المستويات الخاصة مع المستويات الشخصية ، طبعا ده مش شرط لازم السيطرة ويمكن للناس الفكاك منه ، بس هو اللى حاصل غير كده بمنتهى الاسف .

يعنى للتبسيط المخل  ، بشعر بإستياء لما واحد شيوعى – زى حالاتى – ويحشر كونه شيوعى بزمالكاويته او بحبه لأم كلثوم او بكرهه للبطاطس وان يحيل خطابيا كل واى معنى عام او خاص او شخصى لمضمون طبقى ما وصراعه مع الطبقة الضد وده مش لان مضمون التحليل الطبقى غلط بل لان هذا ” الشخص / الذات / الفرد ” انتحل كل المضامين دى واسقطها على ذاته التى تتحدث ، نفس الشيئ للنسوية اللى رافعه شعار كل نساء العالم انا وانا كل نساء العالم – مش صحيح بالمرة – انتى شخصيا مش كل نساء العالم حتى لو العالم عالم بطرياركى بينكل بدرجات متفاوته بكل نساء العالم .

الإفراط فى الحالة دى وفى مصر تحديدا بيبتذل الأيديولوجيا الى اخر مدى ، بيحطها ، ويبرجزها احيانا ودائما بينمطها ويحصرها فى شلل ومجاميع وطريقة كلام وطريقة لبس وذائقات فنية وموسيقية اى انها ببساطة شيئ بيعلن بإستتار عن حصرية الايديولوجيا لفئة ما ، ويخلق منها ماكينة تسلط من نوع جديد على البشر تحرمهم من الاختيار او بيقفل عليهم ماديا ابواب اختيارات معينة ، وعلى ناحية تانيه هى حالة بتحط من حرية الانسان الفرد بشدة لانها بتمنع عنه التعامل مع جوهره ككينونة تموج بالتناقضات والصراعات والإضطرابات والعوار والفانتاسيات ، وبتحط كمان من خصوصية حياة الانسان وقدسية اسرارها واللى هى فى رأيي شرط الحفاظ على صدقيتها وقدرتها على الخلق والإبداع .

طبعا كلامى ده مش معناه ان الايديولوجيات لاتعكس نفسها على الانسان واختياراته الفردية ، بالعكس تماما انا تقديرى انها المفروض بتشكل جوهر الخط العريض لإنحيازاته .. بمعنى ان الشيوعى او النسوية لازم يبقوا اشخاص عندهم حساسية زيادة ضد جوهر فكرة الملكية ذات نفسها بما يعنى ذلك من انعكاسات مهولة على الحياة واختياراتها ، وبالشكل اللى بيشكل تعاطيهم مع مساراتها عموما ” مش خصوصا ” .. وظنى ان ده لو مش متحقق فده شيئ تعيس جدا .. بل وللأسف العكس هو الموجود .

الانسان اول ما بيتحول الى ” بيرسونا ” لا بيبقى عنده عام ولا خاص ولاشخصى ولا انسان اصلا .. بيبقى ماكينة اضطراب واستعراض وابتذال للمعانى بغرض الوصول لمكاسب مادية تافه ووضيعة جدا ومتستاهلش كل ده .. يسقط كل ايدولوجى بيبدأ كلامه وسلوكه وخلجاته فى غير الامور العامة بأنا كشيوعى او انا كأناركى او انا كنسوية ، لانه بيهين المعانى دى زى الظابط بالظبط اللى كان فى قصيدة الأبنودى ، وده بقى حال كائنات افتراضية كتير بنشوفها على النت او حقيقية بنخبط فيها فى الشوارع .

 

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

ربما من أعمق الحاجات اللى قالها كارل ماركس فى أحد مراسلاته هو أنه قال ” أنا لست ماركسيا ” ، وأعتقد أن ده كان أعمق وأبسط نقد ممكن حد يوجهه لفكرة تحويل الأيديولوجيات إلى هويات ، خاصة لما تدخل فى مرحلة الأنتشار الشعبى ويبقى أسباب ودوافع تبنيها متفاوت جدا ومختلف من شخص لأخر . بالنسبة…

أترك تعليق