ثلاثة طوابير خامسة

لانملك أمام فواصل الردح السياسى والهذيان الإعلامي وموروث التقاليد الأمنية العريقة، سوى أن نشتبك مع تلك التهمة التي ابتدعتها بقايا الدولة العميقة ومن أمامها القوى التقليدية (الفلول)، وكذا الإخوان المسلمين في فترة حكمهم، والتي رموا بها القوى الديمقراطية والثورية، والقائلة بعمالة تلك القوى للخارج عبر تلقي منظماتها والشخصيات المنتمية لها تمويلاً مشبوهاً.

إذا كانت القوى الديمقراطية والثورية، والملقبة حالياً بالطابور الخامس بحسب أعرق جريدة مصرية (الأهرام)، هي القوى الأكثر حظاً الآن فى نيل تلك الاتهامات، فإن الخطوة السليمة هى تفنيد خطاب العمالة الموجه لها، لكنه فى الواقع أمر يحتاج لسلسلة طويلة وتفصيلية من المقالات عن أزمة خطاب الوطنية المصرية في طوره الحالي. لذا قد نضطر لأن نرمي بحجرنا فى بورصة الاتهامات نحن الآخرين، لعلنا نكشف عن الطوابير الخامسة الأخرى، وربما الحقيقية وفقاً للمعادلات السياسية المنحطة الحالية ومعاييرها ذات الرطانة الوطنية شكلاً وليس موضوعاً.

هناك مثل شعبي، هو من البذاءة المركبة التي تجعل شرحه بشكل تفصيلي أفضل من إلقائه نصاً، وهو أن صاحب العلة يرمى غيره بها، وأنه من فرط تورطه في آثام يتحايل لفظياً ونفسياً وسلوكياً، كي يصيب من عاداه بما أصابه هو. التهمة العامة هى العمالة للخارج “أي خارج وكل خارج ” والتهمة التفصيلية هي: خدمة مخطط دولي أو إقليمي.. والقرينة هي تلقي تمويل خارجى أو دعم إعلامي وسياسى واضح من هذا الخارج.

حسناً، وفقاً لمازورة الخطاب الوطني المتعصب الحالي، إذا تأملنا قليلًا طيف القوى والميول السياسية في مصر لنقف على علاقة كل منها بهذا “الخارج الأجنبي عربي كان أم غربي”، سنجد أن كلها بلا استثناء تصلح لأن تكون طوابير خامسة عميلة وبإمتياز. يمكننا التحدث عن طابورين خامسين آخرين، يعبران عن الطيف العام فى مصر وهم القوى التقليدية التى تسمى مجازا الفلول، وقوى الإسلام السياسي وفي القلب منهم الإخوان المسلمون، إلى جانب القوى الديمقراطية والثورية والتي اعتبر محمد البرادعي رمزاً لها في الماضي.

أول الطوابير الخامسة هي القوى التقليدية أو الفلول فهي وفقاً لمعايير الاتهام المتداولة تعبر عن امتداد إقليمي واضح ومعروف للجميع، وهو المملكة العربية السعودية والإمارات. فالرمز الانتخابى لهذه القوى، الفريق أحمد شفيق، مقيم دائم في دبي لم يغادرها حتى الآن، لم يعد لبلده مصر -أم الدنيا- حتى بعد ٣٠ يونيو٢٠١٣.

ومسؤول الأمن الأول في دولة الإمارات، الفريق ضاحى خلفان، كانت له أراء مستمرة وواضحة ومعلنة في الشأن المصري الداخلي، ولم يجد هذا التيار غضاضة في ذلك، ولم يجده تدخلاً خارجياً. وكثير من رجال الأعمال الداعمين للقوى التقليدية (الفلول) لهم شراكات سعودية وإماراتية بحصص كبيرة، سواءاً كانوا من كبار كبار رجال الأعمال فى مصر أو متوسطي كبارهم، وذلك بحكم وجود سيولة مالية خليجية، وهو أمر شائع من منتصف التسعينيات.

ومن المعروف أيضا أن دولتي الإمارات والسعودية ليست بالنظم الديمقراطية، وبالتالي فإن قطاعات المال والأعمال فيها تضع في الاعتبار الانحيازات السياسية الملكية أو الأميرية وحساباتهم الأمنية، وبالتالى نحن لسنا بصدد شراكات حرة فى سوق مفتوحة، بل في شراكات سهلة الفض بقرارات سريعة وبحسب التطورات السياسية، وهو الأمر الذى قد يخضع أو يؤثر على مواقف الشركاء المصريين. ونعلم أيضا أن قواعد الشفافية في تلك الأسواق الخليجية، سواء كانت سعودية أو قطرية أو حتى امارتية، لا تمنع التداول النقدي الكبير في أسواقها. بالتالي، من الممكن أن يتم دعم مؤيدون خارجيون لها بحقائب مالية نقدية لاتخضع لأي رقابة، عوضاً عن القواعد الغربية الصارمة التى تجعل من التعامل البنكي الرقمي شرطاً للتبادل في العمليات المالية الكبيرة.

وحتى على المستوى الرمزى والمعنوى نجد أن إحدى القنوات الفضائية التي ترمي خصومها نهاراً وليلاً بالعمالة، نقلت على الهواء مباشرة بالأقمار الصناعية وقائع احتفال دولة الامارات العربية المتحدة بعيدها الوطنى الـ ٤٢، في تحد سافر للمشاعر الوطنية المصرية، وفقاً لمعايير الإنشاد الوطني المحموم التي تتبناها تلك المحطة، بدرجة تجعل معها مصر هبة الإمارات وليست هبة النيل كما يقول أوائل المؤرخين وديباجات الدساتير.

ثاني الطوابير الخامسة هي قوى الإسلام السياسي وفي القلب منها الإخوان المسلمين وهم الذين لم يتأخروا عن وصف خصومهم بهذا الوصف فى فترة حكمهم، مع بعض المجازات الإسلامية كالفئة الضالة وبعض المفردات الأمنية كالقلة المندسة، لا ننسى حديث الأصابع الشهير لمندوب مكتب الإرشاد في الرئاسة السابق د. محمد مرسي. ولن أزيد في الأوصاف “الوطنية” للإخوان المسلمين التي تنعتهم بأنهم أكثر الطوابير الخامسة خمساً، وأنهم عملاء الكل ضدنا. بيد أنه من الصعب وفقاً لمفهومي الخاص وصف الإخوان بأن لهم أجندات تخدم مصالح قوى إقليمية بعينها بشكل دائم، لأن الاخوان كتنظيم هم أنفسهم قوى إقليمية بذاته، وحساباتهم تتجاوز حدود القطر المصري، ويستطيعون ملاعبة الدول بندية. وقد تلاقت مصالحهم موضوعياً مع الولايات المتحدة، وتم تسهيل تفاهماتهما عبر الوساطة القطرية التي ضمنت هي الأخرى للإخوان المال السائل الموجه من الدولة، والغطاء الإعلامى الممثل فى شبكة قنوات الجزيرة، كشكل من أشكال دعم هذه الشراكة الجديدة مع الولايات المتحدة.

بالتالى يمكن اعتبار قطر هي الحليف الإقليمي للإخوان المسلمين، إلى جانب تركيا تحت حكومة أردوغان. وإذا كان كتب لحكم الاخوان الاستمرار لما أعتبر هذا الحلف عمالة أو تبعية لتلك الدول، بل كان اعتبر توجه جديد للدولة المصرية في رسم خريطة سياستها الخارجية، تماما كما هو الحال في العهد الحالي إزاء المملكة العربية السعودية والإمارات!

ثالث الطوابير الخامسة هي القوى الديمقراطية والثورية وهى تقذف بهذا الوصف تارة لأنها طابور خامس للإخوان المسلمين أنفسهم، وتارة أخرى بالتبعية والعمالة المباشرة للولايات المتحدة وللغرب عامة. وكان شخص محمد البرادعي هدفاً مجسداً لكل تلك الاتهامات، ولا أعرف كيف يمكن وصفه بالعمالة في وقت اتفقت معه الدولة المصرية، ممثلة فى قواتها المسلحة وقائدها العام، على تولي منصب نائب رئيس جمهورية مصر العربية في لحظة استثائية. ربما نحاسب محمد البرادعى على تعاطيه السياسي مع الأحداث ومقدار تحمله لصعوبات المسؤولية السياسية في لحظات دقيقة ومفصلية، لكن حديث العمالة أمر مختلف؛ فقد وجدنا إعلاماً يتهم نائب رئيس الجمهورية وهو في منصبه بتلك التهمة!

الحقيقة، ووفقاً لمعايير وصم القوى بالطابور خامس، ربما نجد مشكلة القوى الديمقراطية والثورية أنها تفتقد لتلك المقومات؛ فهي ليس لها الامتداد الإقليمي الخليجي الذي يوفر المال السائل الوفير الغير خاضع فعلًا لأي نوع من أنواع المراقبة، ولا يمتلكون الصلات التنظيمية العليا أو الاتصالات المباشرة مع دوائر صنع القرار في الخارج، بالقدر الذي امتلكه الإخوان المسلمون أو القوى التقليدية وأجهزة الدولة.

كما أن اتهامها بالعمالة للولايات المتحدة أمرا يثير الارتباك، لانه -وباللغة ذاتها- إذا وصمنا القوى التقليدية (الفلول) بإنهم امتداد إقليمي للإمارات والسعودية وان الاخوان المسلمين هم الامتداد الاقليمى لقطر وتركيا فبالتالى تصبح القوى الثورية والديمقراطية من التابعين، ويصبح الفلول والإخوان من تابعي التابعين؛ فقطر هي القاعدة العسكرية للولايات المتحدة في الخليج، والإمارات هي مرتكز الاستثمارات العالمية في المنطقة بحصة كبرى أمريكية في التحليل الأخير. وإذا كان هناك من يحج إلى الدوحة بالأمس، فهناك من يحج إلى دبي اليوم.

وما قصدته من جدل سابق لا يتجاوز حدود الرجاء إلى من تبقى لديه قدر من العقل والمعقولية بأن يتوقف هذا الهذيان المدعوم من إعلام الدولة والإعلام الخاص. ليس رهاناً على وعيٍ أو أملاً في قناعات هي بالفعل غائبة، بل لأنه بالفعل يكفى هذا المستوى من الهذيان لأنه قد يرتد وبالًا على أصحابه. فهو باطل متهافت لا يستند إلا لقوى توازنات السلطة في لحظة معينة. ومن يتم اتهامهم بالعمالة اليوم يمكنهم وفي توازنات قوى مختلفة أن يتهموا الآخرين بالعمالة في الغد، ولتأخذوا من الإخوان المسلمين عظة وعبرة .

** نشرت هذه المقالة فى مدى مصر يوم 24 ديسمبر 2013

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

لانملك أمام فواصل الردح السياسى والهذيان الإعلامي وموروث التقاليد الأمنية العريقة، سوى أن نشتبك مع تلك التهمة التي ابتدعتها بقايا الدولة العميقة ومن أمامها القوى التقليدية (الفلول)، وكذا الإخوان المسلمين في فترة حكمهم، والتي رموا بها القوى الديمقراطية والثورية، والقائلة بعمالة تلك القوى للخارج عبر تلقي منظماتها والشخصيات المنتمية لها تمويلاً مشبوهاً. إذا كانت القوى…

أترك تعليق