حوارمع إضاءات عن تفاعل التيارات السياسية المصرية مع الثورة

يذكر الناقد الفلسطيني فيصل دراج في كتابه “الحداثة المتقهقرة” أن إحدى مآسي المثقف التنويري في العالم العربي تأتي “من مكر التاريخ الذي استولد مثقفا عربيا، ولم يستولد معه، أو له، طبقات اجتماعية تحتاج الثورة أو تحلم بها. ولذا بدا المثقف عاريا أو شبه عار، معلقا في الفراغ، ينوس بين جمالية المتمرد ويوتوبيا النقد الاجتماعي الشامل”. ولعل ما نعيشه في العالم العربي عامة، ومصر خاصة، هو في أحد أوجهه، تجلٍّ للمأزق الذي يتورط فيه المثقف، محتضنا ألوانا من اليأس والعدمية المغلفة بسخرية لامبالية.

في إطار حوارات إضاءات مع رموز المعارضة والثقافة المصرية بمناسبة الذكرى السادسة لثورة يناير، كانت لنا تلك الجولة مع مثقف مصري عايش مآزق الثقافة والسياسة في مصر من داخلها، وانتهى محللا عميقا لجدليتها وحاملا مرهفا لتراجيديتها المؤلمة، هو محمد نعيم، الكاتب السياسي، والباحث السابق في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وعضو الهيئة العليا للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي سابقا.

بقي المثقفون العرب عقودًا، ومن بينهم المصري، يشكون وقوعهم بين سندان الجماعات الدينية، ومطرقة النظام القمعي الذي لا يستجيب لطموح المثقف التقدمي، في مأساوية تحمل القدر المسئولية كاملة، واتخذت تحليلاتهم لصعود الإسلام السياسي منحى مؤامراتيًا أحيانا، باعتباره نتاج تحالف تم بين قوى الشر حول العالم، أمريكا والأنظمة العربية والجماعات الإسلامية، للإطاحة بالقوى المدنية أو التقدمية العربية. برأيك، هل يكفي هذا التحليل لتفسير هيمنة الإسلام السياسي على المجال العربي لعدة عقود، أم أن لديك رأيًا آخر؟

ساحدثك عن مصر  فقط، عشان اكون بتكلم وانا متأكد من كلامى

هذه المقولات تأسست جذورها القوية  السبعينيات .. وقتها كان الطور الساداتى من دولة يوليو يعلن بوضوح معاداته للشيوعية ويقدمها كخطر أول ، ويغير من خياراته  الأستراتيجية نحو التحالف الأوثق مع الولايات المتحدة  ،ويزيد من المكون الدينى فى خطابه وتصبح مصر دولة العلم والإيمان وتتوثق علاقته بالملكيات العربية أكثرو أكثر  ولا سيما السعودية ، ويوغل فى النيل من الناصرية  من مواقع  الخطابات التقليدية المحافظة، هذا ليس معناه بالطبع  وجود مؤامرة مخططة  ومحكمة بين نظام السادات والتيار الإسلامى لكن تلاقى المصالح كان اكبر من تنكره العين على الأقل فى السنوات مابين  نهاية حرب اكتوبر 1973 وزيارة السادات للقدس نوفمبر 1977   .

واذا ذهبنا بالأمر لمستوى عالمى ما .. فنعم  تحالفت بالفعل امريكا وبعض الانظمة العربية والجماعات الإسلامية فى افغانستان لمدة تقارب عشر سنوات، هذا ليس وهما وليس مفاجأة ونتج عن هذا التحالف ذلك  طورا متطورا من الحضور الإسلامى المسلح  الذى اصبح لاحقا رقما فى المعادلة العالمية  وقادر على تهديد بلدان الغرب فى عقر دارها  ، لم نكن الإمكانية الاسلامية تلك موجودة فى السابق وهذا الحضور الإسلامى المسلح الجديد لم يكن ابدا ليصل لهذه المكانة بدون دعم وتدريب انظمة عربية ورعاية دولية ما  .. ينسى البعض ان فى عام 1996 حينما تمكنت طالبان من السيطرة على مقاليد الأمور فى افغانستان لم يعترف بشرعية حكمها الا بلدين هما السعودية والامارات ..  نحن اذن لا نتحدث عن اسطورة تامة او مقولات فصامية .

لكن بعد ذلك اصبح فى رأيي  الإستمرار ترديد تلك المقولات نوعا من البؤس والكسل الذهنى، لإن الجانب الأخر من الصورة والذى يتم انكاره دائما من غير الاسلاميين هو ان التيار الاسلامى تيار طبيعى وشديد المحلية وهو ابن طبيعى  للدولة  الإسلامية المعاصرة المسماة زورا  ” بالعلمانية او الحديثة ”  ومنتج حتمى لميراثها الوطنى الذى يحمل داخله مكون دينى غالب وحديث العلمانيين عنهم بإعتبارهم  ردة ثقافية او وافد غريب من دول الخليج هو نوع الضلال ، وقنابل دخان غرضها الهرب من استحقاقات المراجعة والنقد الذاتى الذى لم يقوم بها اليسار المصرى الملحق بالناصرية منذ اواخر السبعينيات .. لقد قال لى  المفكر محمد السيد سعيد رحمة الله ذات مرة ان المشكلة الرئيسية لأ طياف اليسار من ابناء مرحلته هى عجزها عن التعاطى مع الواقع المادى الذى فرضه انور السادات  والإكتفاء بلعنه .. وظنى ان هذا المنطق توارثته الأجيال اللاحقه فى علاقتها بدولة يوليو واطوارها حتى ثورة يناير .

لقد تحالفت الولايات المتحدة مع الإسلاميين لفترة تتجاوز العقدين  من الزمان و هذا أمر لا يمكن إنكاره أو عدم وضعه فى الحسبان حين يتم مناقشة صعود الإسلام السياسى وتطوير أدواته

«اليسار مأزوم» شعار يردد بقصد المكايدة أو بقصد الندب حتى صار مملا، السؤال الأهم هو ما الذي ينقص اليسار المصري، أو بتعبير قد يكون أدق، القوى المصرية غير الدينية من جهة، وغير الليبرالية من جهة أخرى، لتكون تيارا اجتماعيا وفكريا متماسكا؟

مبدئيا لا يوجد تيار اسمه القوى المصرية غير الدينية  هذا معنى يستبطن ان الصراع فى مصر محوره  الأول هو الصراع بين الدينيين والعلمانيين وانا ضد هذا الكلام تماما ، هذه اجندة التيار الاسلامى واجندة السلطويين الوطنيين  فى ان واحد ويالا الغرابة ، وهى اجندة زائفة وكذوبة اذا ارادت اختصار مصر وازماتها فى حدود ذلك الجدال فقط .

ولكى اسهب فى شرح فكرتى التى قد تبدو غربية ، فأنا أرى ان الطريفين يريا فى  مصر الحديثة دولة ” علمانية او تغريبية او ليست اسلامية ” كل وزاوية نظره، فيطرح السلطويون الوطنيين هذا الطرح من اجل اعلان نفسهم حماة للدولة المدنية ومحافظين على وجودها ، فى حين يطرح الاسلاميين نفس الطرح لتعليل وجودهم كقوة تريد عودة الإسلام وتمكينه بعد ان صار غريبا فى دياره .

والأصل فى رؤيتى هو ان  الدولة المصرية المعاصرة دولة اسلامية  بالفعل ، ورربما بإستثناء فانتازايات العقوبات البدنية ووجود مظاهر غربية حداثية فإن الشرع يهيمن على مفاصل الحياة الاجتماعية ميلادا و زوجا ومماتا  ومواريثا  ،وعلى المستوى السياسى وبالرغم من ان الفكرة “الجمهورية” بما تستتبع من إقرارها لبداهة  مبدأ الأمة مصدر السلطات  تبدو فكرة غير اسلامية الا ان منطق التقليد الاسلامى غالب على الوعى السياسى والحركى فى اعماق الاعماق ربما لا مجال لى هنا ان انطلق فى شرح ذلك تفصيلا  لكن يمكنى الإشارة مثلا لمدى كراهية البيئة الثقافية المصرية لفكرة ” الحزبية ”  كمعنى وممارسة بإعتبارها تفتيتا للأمة .

 لكن وفقا لما قصدته  حالا ..  فوفقا لمازورة هذا الجدل فإن الوطنيون السلطويون  الذى  يطلق عليهم مجازا ليبراليون ما هم الا جيوب برجوازية تريد الحفاظ على انماط حياة غربية استثنائية  ومترفة  و التمتع بحريات  حصرية لهم دون غيرهم  ولكن من داخل كنف وكيان الدولة الاسلامية المعاصرة  بل اننى ارى فى سقف  الطموح  الفعلى للاقليات الدينية هو مجرد ضمان  عقد ذمة  معاصر ، هو طائفى ومللى بالتأكيد ولكنه اكثر سماحة واقل جلافة  ومخاشنة مع الدولة الاسلامية المعاصرة ،  و على الجانب الاخر ما الاسلاميون وجماعاتهم المختلفة فى نظرى الا فرق إسلامية داخل الدولة الاسلامية المعاصرة تريد الحشد والتعبئة بدعاية تقول بلا اسلامية الدولة  او عدم كفاية اسلاميتها مع ان برنامج الاسلاميين الفعلى والعملى واليومى فى مصر كان  محاربة المظاهر غير الاسلامية والبدع ” الوافدة ” و ” الغريبة ” و ” غير الأصيلة ”  وليس إستعادة الإسلام من قاع البحر البعيد .

للطرفين إذن مصلحة فى استمرار جدل لا اساس  مادى لإحتكار هيمنته على ماسواه .. طرف يريد الحفاظ على دولة مدنية  هى غير موجودة  ولو توجد ابدا ويراها سقف السقوف  فى تصوراته عن الحرية لانهم طرف رجعى ومعادى للتمكين الاجتماعى لمن دونه فى السلم الإجتماعى  ، وطرف أخر مهووسا بحق يريد تأسيس دولة اسلامية  هى موجودة ومتحققة بالفعل  وكانت ومازالت سبب كل خرابنا وبلائنا .. وظنى ان جدل كهذا يمكن ان يستمر الى مالا نهاية لان اساسه المادى واهى تماما .. وظنى ان هذا الجدل تتمناه وتريده الدولة الاسلامية الحاكمة المعاصرة طالما كانت هى موجوده وحية  وتظل معه حكما بين هذين المزاجين.

 وفى التحليل الأخير إشكال الدولة مع الإسلاميين ليسوا كونهم اسلاميين بقدر  سعيهم للتمكين  – كفرقة اسلامية داخل الدولة الإسلامية –  الدولة الوطنية الإٍسلامية المعاصرة مشكلتها مع الاسلاميين هى انهم فى بعض الأوقات يتحولون الى  ” خوارج “، و حين حكم الإخوان لسنة وشاركوا فى السلطة لسنة قبلها لم تكن التهمة الموجهة لهم هى اسلمة الدولة  بل اخونة الدولة .. فالدولة اسلامية بالفعل .. يبدو كلامى متطرفا ولكن استحملنى معلهش  انت اللى جيت تسأل.

ولكن من داخل هذه المقدمة الطويلة استطيع الولوج لسؤال اليسار المأزوم وهو ليس سؤالا مكايدا على اى نحو .. فاليسار مأزوم دائما منذ مولده   .. لكن ظنى ان هناك طريقتين للتعاطى مع سؤال ازمته تلك

الطريقة الأول هى تفحص طروحات اليسار وافكاره واختبار مدى سلامتها نظريا ومدى تماسكها فكريا ورأيي ان هذا طريق يذهب الى اللا مكان ، لانه يمكن لأطروحات ان تكون وجيهة ومنطقية ومتماسكة ولكنها لاتملك حاضنة اجتماعية او رافعة مادية تعضضها  والعكس صحيح تماما ، حيث يمكن لأفكار  محدودة ومفككة وغبية ان تقوى وتتعزز بوجود المكونات المادية التى  تستطيع الإرتقاء بها لمصاف الايديولوجيات المهيمنة  .

الثانى وانا اميل له هو تفحص الإمكانيات التاريخية  والشروط الموضوعية والأساس الإجتماعى وكذا الأيديولوجيا المهيمنة للدولة الذى نشأ فيها اليسار  ، ومنها يمكن ان نستنبط افاقه وشروط حركته وامكانياته الفعلية وعلى الأسس السابقة يمكن قول التالى :

1- ان الدولة فى مصر منذ الاحتلال البريطانى وحتى تاريخه تكن عداءا ايدلوجيا صليبيا للشيوعية ولا مجال للهزل او السهو فى ذلك ، كان هذا من زمن سعد زغلول الذى نكل بالحزب الشيوعى الأول كأى طاغية مرورا بجمال عبد الناصر الذى كان يعذب الشيوعيين ويدجنهم بينما كان صديقا مقربا وممولا من الإتحاد السوفيتى وحتى الزمن الذى يمزق فيه جسد باحث ايطالى شيوعى شاب اسمه جوليو ريجينى لمجرد شبهة اتصال بحركة عمالية مطلبية بدائية .. ليس للأمر مجال للهزل كما قلت فلقد كانت الشيوعية ومنذ اللحظة الأولى وبالقانون جريمة فى حد ذاتها  وعلى احزابها ان تكون تحت الأرض وعزى الأمر  للنفور الثقافى منها  وربطها بالإلحاد ليس منطقيا جدا لأن اكم من بلدان اسلامية كانت فيها حركات شيوعية حرة ونشطة وجريئة .

2- وعطفا على النقطة الأولى وشروطها تأتى النقطة الثانية وهى ان اليسار كان دائما ابن حالة  الاستثناء الحركى التى فيها من الإنتفاض الجماهيرى  والحراك الشعبى وحلحلة شرعية الدولة والذين كانوا دائما  مجرد فترات زمنية قصيرة ودائما ما انتهت بهزائم مرحلية تطول او عملية احتواء وتدجين قاسى ، اليسار المصرى الفاعل هو ابن انتفاضة العمال والطلبة عام 1946 والتى بتر  حراكها وارتبك على مدى  ست سنوات انتهت بإنقلاب عسكرى جاء فى 1952 ليضع حدا لتفكك الدولة وانتفاء شرعيتها ، واحتوت واحتالت حركة الظباط الأحرار على اجندة حركة 1946  وجاءت ببرنامج النقاط الستة فكانت الناصرية كأقصى تجلى للحس اليسارى للدولة المصرية ، بعد ذلك جاءت الحركة الطلابية بين 1968 و 1973 فى طورها السلمى الديمقراطى والتى اجهضت بقيام حرب اكتوبر  واحتاج الأمر لعشرات الأعوام حتى جاءت ثورة يناير لينفجر منها امكانية يسارية جديدة  وواسعة، تلك هى البيئات التاريخية التى يمكن لليسار ان ينفذ منها بإمكانية جادة ولكنها بيئات استثنائية ومألها الهزيمة او الأحتواء  بقدرة الدولة على إسترداد شرعية قمعها مرة أخرى ، فما يحدث فعليا هو بزوغ يسارى نشط لجيل وثاب يعقبه اعوام طوال من احاديث نوستالجيا التجربة المبتورة .

3- النقطة الثالثة تجيب على سؤال ينتج من النقط الثانية وهو سؤال ولماذا إذن لم يستطيع اليسار خلال فترة الانتفاض القصيرة ان يؤسس اساسا لنفسه كى يكون قابل للعيش والإستمرار والرسوخ فى فترات الجذر والقمع  ولهذا السؤال اجابات مختلفة ولكن ابرزها فى رأيي هو ان اليسار  ينشأ فى حاضنة اجتماعية ليس لديها القدرة والطاقة على تحمل طروحاته للنهاية ولحدودها الصادقة  ، اليسار هو فى التحليل الاخير ابن للطبقة الوسطى المحظوظة وتبشيره بالمشروع الاجتماعى الجامع محدود بوطنية هذا المشروع وبتسامح البرجوازية معه  ومهما كان اليساريين متجردين ومثاليين وكفاحيين فهم فى النهاية يعون العالم من موقعهم الإجتماعى هذا وعليه فإن الأساس الإجتماعى لليسار فى مصر لا يستطيع ان يكون جذريا .

وفى ظل ان ما يسموا بالليبراليين المصريين هم فى الحقيقة حفنة من السلطويين المهاوييس بالمكياج الغربى يجد اليسار نفسه هو المدافع الفعلى عن ما يجب ان يدافع عنه الليبراليين واذا ضفنا على  ذلك طبيعة الحاضنة   الاجتماعية لليسار سنجد ان اليسار عمليا هو التيار الليبرالى  الحقيقى فى مصر .. بمعنى ادق اليسار يحمل وزرين على كاهله الأول هو انه وريث الليبرالية الوحيد بكل قيمها الحرياتية التاسيسية الأولى وهو المعبر عن المزاج الديمقراطى الحقيقى داخل الطبقة الوسطى والوزر الثانى هو انه المتحدث بإسم فئات اجتماعية  اكدح هو لا يستطيع تمكينها ولم يختبر ابدا طريق التمكين ذلك  وان مشروعة الاشتراكى محدود فى مصر بمدى توافقه وليس صراعه معه برجوازية هى لسوء حظه شديدة اليمينية وذاتية التدمير .

ينسى البعض ان الشيوعية مجرمة قانونا فى مصر منذ  وقت الأنتداب البريطانى وتلقى الحزب الشيوعى الأول  لضربات قاسمة فى زمن سعد زغلول .. الصورة للعامل الشيوعى مصطفى خميس قبل إعدامه بأيام

في نطاق أوسع، لماذا فشلت المعارضة المصرية في تنظيم صفوفها في سنوات الثورة، وما زالت إلى اليوم فاشلة في ذلك، رغم أن النظام الذي تكون بعد 30 يونيو تأزم بشدة في وقت أسرع مما توقع خصومه؟ وماذا يمكن للنشطاء والمثقفين والشباب السياسي المعارض في مصر أن يفعلوا للاستفادة من هذا التأزم الذي يعانيه النظام؟

اللافت فى هذا السؤال هو انه يستبطن معنى واضح يقول بأن  الأخوان ليسوا معارضة !! و كمالو كان الأخوان لم يكونوا منظمين وظنى ان الاخوان المسلمين تنظيميا كانوا تنظيم بالغ النجاح بأى معيار عالمى وبفارق مخيف عن اى كيان محلى اخر .

ولكن من هذا الاستبطان غير المقصود يمكننا ان نجد الإجابة .. وهو ان المعارضة التى ولدت بعد 2011 ولدت فى بيئة تتعامل بداهة مع وجود الجيش والأخوان كطرفى حكم وعليهم ان يعدوا خلف تلك الحقيقة و يغالبوا هذا الأمر الواقع الذى فرض بدءا من لجنة صبحى صالح والبشرى واستفتاء 19 مارس .

فى اعقاب الثورة التى شارك فيها الجميع  كان تكرار اجتماع اقصى اليمين واقصى اليسار مرة اخرى لهو امر من المستحيل  .. ووقتها كان صوت العقل يطالب بألا تتعمق الأسئلة كى لا يحدث الاستقطاب وكأن  تعريف الثورة هو التوافق بين الأضداد من أجل منع تعميق الصراع وكأن حدود الثورة المرجوة  هى  مجرد عملية عقلنة لصياغة التعايش المشترك .. بعد يناير نشأ حزب جل قيادته من  شباب شديدى الإخلاص للثورة ولتجربة يناير وهو حزب العدل ولعله كان الحزب الوحيد الذى كانت قيادته كلها شابة  .. حزب العدل كان يرى ان المعبر الحقيقى عن الثورة هو ان تكون فى المنتصف تمام بين اطراف اليمين واليسار ، امتلك هؤلاء الشباب جرأة الإدعاء بتمثيل الثورة وبتبنى الوسطية فى كل شيئ فى نفس ذات اللحظة ولم يكن هذا الطرح اللا هاجس غير واعى بما حدث لاحقا .

لقد كان اول فعل سياسى حركى مهم قام به خيرت الشاطر فور خروجه من السجن فى اعقاب ثورة يناير هو تشكيل الهيئة الشرعية للحقوق والاصلاح  وكان موضوعها الحركى لحظة تأسيسها هو خلق مظلة اسلامية واسعة من اجل الحفاظ على المادة التانية من الدستور وكأنه لم يفهم من ثورة يناير  وزخمها  الا انها تهديد لمادته الثانية تلك !! وبناؤ عليه يشكل خطابه الحشدى الذى رافق استفتاء 19 مارس 2011 والتى كرت معه مسبحة الاستقطاب الزائف العبثى اياه .

لكن على مدى لا يزيد عن السنتين من مارس  2011  حتى يونيو 2013  بما فيهم من احداث شديدة التلاطم والارباك ، ماذا كان يمكن  ان يفعل عبد المنعم ابو الفتوح مثلا اكثر من الذى فعله ، اسس حملة رئاسة شابه وحولها الى حزب ،  ماذا كان فى وسع حزب ناشئ كالتيار المصرى ان يفعل وهو يجد عضوه عبد الرحمن هريدى وعضو مجلس الشورى يطرد من القاعة ويضرب لمعارضته للأخوان ، الحزب المصرى الديمقراطى الاجتماعى ماذا كان يفعل اكثر من ان يؤسس نفسه ثم ان يشارك فى كل محفل انتخابى فى امكانه المشاركة فيه ويرضى بنصيبه من الجماهير وان يدعم شرعية العملية الديمقراطية حتى اللحظة التى فرض فيها الاخوان دستور 2012 بمنطق المغالبة  فذهبت مصر الى طريق الانقلاب المحتوم .

لقد كان فى مصر وضعا ثوريا بالفعل ولكنه كان فوق طاقة كل الفاعلين ، و الانتفاضة تحولت الى ثورة بالفعل ولكن ليس لان الفاعلين  اليناييرين كانوا ثوارا راديكاليين  بقدر ما كانت الدولة من التفكك وانعدام الشرعية بالشكل الذى خلق وضعا ماديا انتج معه  وعيا  إمكانية ثورية محسوسة داخل بعض اطراف الوجود الاجتماعى .. ولكنهما كانا وعيا و إمكانية بدون اى حاملة افكار ثورية .. وما انا استردت  أوصال الدولة عافيتها حتى اجهزت على ذلك الوضع الثورى الملقى فى الشارع ..  مرة بمساعدة الاخوان المسلمين   و مرة لاحقة فوق جثثهم .

إدارة خيرت الشاطر للصراع السياسى بعد الثورة أسهم بحسم فى الكوارث اللاحقة

 يحتاج التيار الثورى الديمقراطى نقدا ذاتيا عنيفا تستخدم فيه كل الأدوات والنصال الحادة لكن مع هذا النقد نحتاج للتعاطى مع اعتبر ه ثلاثة صدمات متتالية عانت منتها مصر فى السنوات الستة الأخيرة

  • الصدمة الأولى هى ان الناس كانت “بتتكلم” عن ثورة ستحدث او تغيير كبير سيقع بدءا من 2005 دون اى استعداد جاد لاستحقاقات هذا التغيير .. قامت تلك الثورة وكانت كالصدمة غير المتوقعة فجاءت استحقاقات الحدث الجلل صادمة وسريعة ومربكة ومحرجة وكاشفة  ” للجميع دون استثناء ” .
  • الصدمة التالية وهى اسرع واكبر من الاولى ، كانت عدم تخيل اى فاعل محلى او دولى ” الثورة – الجيش – الأمريكان – العوام – الاخوان انفسهم ” إن الاخوان اضعف وابسط واقل قوة وهيمنة وقدرة على الضبط وتنفيذ التصورات مما تخيلوه وتصوروه عنهم طوال عقود طويلة .. وهذا سواء من موقع العداء او الرجاء .
  • الصدمتين السابقتين حطمتا تماما للياقة الحركية والنفسية والحضارية للطبقة الوسطى ولاسيما اجنحتها التقدمية فكانت الصدمة الثالثة وهى عدم تخيل وتصور ان ” الطبقة الوسطى المصرية ونخبتها  ” على هذا القدر من الهشاشة والغلب والاستعداد المفتوح للسقوط الحر .

 ثم تسألنى انت الان عن اللحظة الراهنة وإمكانيات التأسيس لمعارضة منها.. حسنأ سأقول لك اننا لازلنا نعيش تداعيات تفويض 26 يوليو 2013 الى الان وليس هناك خطوة للفعل السياسى الا بعد سحب هذا التفويض بنفس قوة وعنوان بدايته ، لكن  وفى نفس الوقت علينا انت نتصالح مع حقيقة ان القوى الديمقراطية فى مصر هى قوة مسالمة ووديعة بالفعل  ولها طاقتها فى تحمل كلفة القمع بحكم بنيتها التنظيمية الضعيفة اصلا وهى لا تعمل بنطاق واسع الا فى اطار ديمقراطى وتوافقى مع الدولة قبل اى شيئ ، ومع ذلك وهاهى الان تقدم التضحيات تلو التضحيات فقط لفتح مساحات ضيقة للعمل وليس لمجرد وضع نفسها كبديل للنظام .

لكن علينا ان نبدأ من التصالح مع فكرة ان التمن الذى يدفع لقاء تفويض 26 يوليو   2013 هو فوق مستوى الاستيعاب ، و الخسائر والعطب والإهدار والعبث والانتهاك الذى ينهل من البلد لا مثيل له فى اى زمن مضى سواء ماديا أو رمزيا ، والإشكال هنا هو ان التفويض لم يتوقف عند حدوده الأولى والتى  هى كانت قاسية وعنيفة بالفعل بل تمادى لمستويات ظنى اننا لسنا مدركين لأبعادها من حيث استباحة الإجتماع المدنى فى مصر فى اشد اشكاله بساطه ..  نحن وسط مأساة بالفعل .. لكن هذا هو عالمنا الذى نتحرك فيه ومنه .

 وكيف ومتى فى الحوار القادم

** أجريت هذا الحوار مع محمود هدهود و تم نشر الجزء الأول منه على موقع إضاءات في 1 فبراير2017

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

يذكر الناقد الفلسطيني فيصل دراج في كتابه “الحداثة المتقهقرة” أن إحدى مآسي المثقف التنويري في العالم العربي تأتي “من مكر التاريخ الذي استولد مثقفا عربيا، ولم يستولد معه، أو له، طبقات اجتماعية تحتاج الثورة أو تحلم بها. ولذا بدا المثقف عاريا أو شبه عار، معلقا في الفراغ، ينوس بين جمالية المتمرد ويوتوبيا النقد الاجتماعي الشامل”.…

أترك تعليق