مرحلة شق الجدار: أسئلة حول العودة للشارع

في أقل من أسبوع جرى توقيف واعتقال مئات أعرف منهم سبعة على الأقل شخصيًا، منهم من سلبت حريته وهو نائم في بيته ومنهم من كان جالسًا على مقهى في آمان، ومنهم من تجاسر على التظاهر يوم 25 أبريل .هؤلاء المعتقلون أبطال بمعنى الكلمة، وهم يدفعون ثمنًا باهظًا لقاء الحفاظ على الحد الأدنى من لياقتهم الآدمية والإنسانية.

يصعب على النفس قبول حقيقة أن مجرد محاولة شرخ جدار إرهاب الدولة أصبحت كلفتها اعتقال المئات في أيام معدودة. سبق وأسقط أبناء مصر المعاصرون نظامًا بأكمله بتكاليف أقل كثيرًا قياسًا  لحجم المطلب والصراع، لذا فصعوبة فكرة ارتفاع التكلفة مقابل بساطة المطلب هو ما دفع البعض لإنكار حقيقة أن أفق التحرك هو فقط محاولة  لشق الجدار، وقد راح البعض يقفز  في الفراغ متحدثًا عن ثورة جديدة وعن قطع قريب للاتصالات خوفًا من الهبة الشعبية الجارفة الجديدة، وعن شقاقات في السلطة تنذر باقتراب ساعة الحكم الحالي.

الجوهر الأصيل لأي حراك ديمقراطي جديد  في مصر هو شعار ” حرية حرية”، وفى رأيي أن شعار الأرض هو العرض “خاصة لو كانت اﻷرض هي تيران وصنافير”، كان شعارًا مزايدًا على الواقع قبل مزايدته على المنطق، فالأرض هي الشوارع التي أصبحنا  نخاف المشي فيها، وهى ملاعب  كرة القدم التي نُمنع من دخولها، وهى الأرض المنهوبة بوضع اليد والتي تُقسَّم بالمتر والجنيه على طوائف  البرجوازية البيروقراطية  لمراكمة المزيد من رأس المال العقاري، وهي الأرض الزراعية التي تتأكل وتُبنى محلها كتل للاجتماع اﻹنساني العشوائي المدمر، واﻷرض هي سيناء التي ابتعدت عن مصر وقتما بدأ  قطاعات من سكانها المصريين  يلعنون مصر وينفصلون عنها شعوريًا وهم تحت القصف الجوي. اﻷرض ببساطة ليست التراب والطين الذي نقف فوقه بل هي حياتنا وأيامنا التي نعانى فيها ومنها.

كان قرار التخلي عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية بالطبع قرارًا استفزازيًا ومنافيًا لمنطق علاقات الدولة بجوارها التي تقوم  منطقيًا على التمسك باﻷرض محل النزاع لحين إمكانية التنازل عنها لاحقًا بعد مفاوضات شاقة وتحكيم دولي، وربما صراعات  مسلحة، وكان غياب أي معرفة شعبية بترتيبات التنازل عن الجزر إعلانًا تامًا بالاستهزاء بمقولات النظام “الوطنية” عن نفسه كحامٍ للحدود والتراب والأمن القومى، لذا فإن الحراك على أرضية مسألة تيران وصنافير كان  استغلالًا تكتيكيًا لإشكال أوقع النظام نفسه فيه، وكان سعيًا لإظهار تناقضات النظام الخطابية وتعريته أمام قطاعات من جمهوره هو بالذات،  وهو أمر تحقق بنجاح، لكن فى الوقت نفسه فإن تردد درجة من التململ والحيرة داخل صف المؤيدين والمفوِّضين لا يعنى على اﻹطلاق تحولهم من جمهور مفوّض إلى جمهور ثوري في عشية وضحاها، ذلك أن أسئلة جمهور المفوضين عن الحكم والبديل والاستقرار والدولة تتجاوز كثيرًا في أهميتها وجوهريتها أحاديث السيادة الوطنية على جزيرتين لم تسمع الغالبية العظمى من المواطنين باسميهما من قبل، وذلك أن المصالح الاجتماعية المتمترسة حول النظام الحالي قد تظل في تأييد تام له حتى لو تنازل عما هو اكبر من تيران وصنافير بكثير. عالم ما بعد 30 يونيو وصراعاته الداخلية أعقد وأقسى بكثير من أن تهزه شعارات وطنية يستبطن الجميع في داخلهم تجاوزًا لها.

ويظل لسؤال “أين البديل” ولمقولة “نحن أفضل من سوريا والعراق” وجاهة لدى من يرددهما، ولا يكفى الاستعلاء أو السخرية من تلك المقولات، وإلا كان الثمن مزيدًا من العزلة واستنكاف الشارع لأي حراك ديمقراطي جديد. لا ينبغي الاكتفاء بتحميل الأمر على اشتداد القبضة الأمنية والسند الفاشي لها من قطاعات من السكان، فلا يستطيع أيٌ من كان إيقاف الجماهير الشعبية المصرية إذا أخذت في لحظة بخيار الانتفاض. فلكل انتفاضة شعبية روح تمرد وعصيان مصاحبة لها يشعر بها اﻹنسان في الشارع بين العامة والمارة وعموم المواطنين، ويعرفها كل من اختبر وعاش انتفاضة شعبية. هذه الروح غير موجودة حتى اﻵن، ولم تكن موجودة في أجواء الحراك التيرانى الصنافيرى.

وليس هناك أبشع من أن يقيم البعض تصوراته الحركية على وجود صراعات وشقاقات بين أطراف حاكمة، ليسوا على الحد الأدنى من التواصل معها،  لأن هذا لن يعنى إلا أن يتحول الحركيون إلى محض وقود لمعركة داخل تلك الشقاقات الفوقية الحاكمة، وذلك إن وجدت أصلًا. إضافة إلى أن التحليل الخاطئ المتوهم ربما يفضى في النهاية إلى الاصطدام بنظام متماسك ومتمترس، وتكون النتيجة ضربات قاسية. الغرض الحقيقي للحراك الحالي شبه المجهض هو مجرد فتح مجال الحركة مع رفع تكلفة قمع النظام لها، ولا مجال الآن للقفز في الفراغ  والرهان على ما يتصوره البعض شقاقات داخل الكتلة الحاكمة التي لا يجمعها ولا يوحدها في الواقع إلا العداء للثورة وللقوى الديمقراطية .

السعي للإفراج عن المعتقلين الحاليين أولوية لكل من تعاطف وأيد الحراك الحالي، فكما ذكرت سابقًا يظل هدف الصراع المادي الحقيقي مع السلطة هو انتزاع مساحات الحركة مع رفع كلفة القمع، بالنسبة لنا على الأقل كبقايا حركة ديمقراطية مهزومة.

** نشر هذا المقال فى مدى مصر يوم 16 أبريل 2016

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

في أقل من أسبوع جرى توقيف واعتقال مئات أعرف منهم سبعة على الأقل شخصيًا، منهم من سلبت حريته وهو نائم في بيته ومنهم من كان جالسًا على مقهى في آمان، ومنهم من تجاسر على التظاهر يوم 25 أبريل .هؤلاء المعتقلون أبطال بمعنى الكلمة، وهم يدفعون ثمنًا باهظًا لقاء الحفاظ على الحد الأدنى من لياقتهم الآدمية والإنسانية. يصعب…

أترك تعليق