أم الدنيا ضد الدنيا وخارج الدنيا

” نشر هذا المقال الطويل على موقع المنصة فى أبريل 2016 بعنوان أم الدنيا : ضد الدنيا وخارجها ، ويمكن اعتباره فى لحظة كتابته  نوعا من الاستشراف الأولي لما ستؤول اليه الأوضاع لاحقا من امتداد واستقرار نمطا مصريا من الفاشية ، تلك التى خلقت عالما جديدا كابوسيا بالفعل ، يتطلب البحث خلف جذوره الأيديولوجية ومحركاته الوجدانية التى دفعته فى محطات تاريخية معينة إلى حدود الالتهاب والتحقق الحالى ، وأعتقد أن هذه الاستهلالة ضرورية قبل قراءة نص المقال الأصلى “

¨ أم الدنيا: ضد الدنيا وخارج الدنيا ¨

لديَّ قناعة قديمة أن واقع مصر المعاصرة التي عشت ونشأت فيها، يمكنه أن يفرز بسهولة نموذج اللواء مكلف إبراهيم عبد العاطي، وجهازه الشهير قاهر الإيدز وفيروسات الكبد، وأن العقيدة الأمنية تُمكِّن من قتل شاب مثل جوليو ريجينى تحت التعذيب، بدون أدنى إحساس بالذنب، وأن خبراء مصر الاستراتيجيين يؤمنون أن الماسونية تحكم العالم فعلاً، وأن ذهنية مسؤولي الإدارة التعليمية بالجيزة تمكنهم من تنفيذ مشهد حرق كتب لا تعجب الوطن. أو أن رئيسًا سابقًا لاتحاد الصناعات وعضو مجلس أمناء جامعة أجنبية، يصرح تحت قبة تلك الجامعة بأن المثقفين هم أخطر فئة على المجتمع. أو أن آثاريين رسميين يدمرون نقوشًا أثرية على جدار أحد المعابد، ظنًا أن بعثة آثار أجنبية هى من حفرتها.

ما ذكرته كان في السابق جائزًا نظريًا، لكني أعتقد أنه كان هناك ما يردع انفلاته، ويحول دون تحوله لحقائق مادية فخورة بنفسها في بلاهة. الأمر، في نظري، يتجاوز في بعض جوانبه النظام الحاكم، أو مجموعات نافذة بعينها. بل هو حال النخب الحاكمة والأمزجة المهيمنة داخلها، ومتن الإنتلجنسيا المصرية . فمصر المعاصرة بكامل قوامها صارت أشبه بالقمر الصناعي الخارج عن مداره، والمعرض للتيه في السديم. وربما لأول مرة في تاريخها الحديث؛ تمر مصر بفترة تتوخى فيها العزلة عن العالم.

في هذا المقال الطويل، مع الأسف، سأحاول تلمُّس إجابة لسؤال: لماذا انفلت الأمر من عقاله آخر ثلاث سنوات بالذات؟ وهل هناك سبيل للعودة عنه أم لا؟ وماهى بعض الجذور التي أفضت إلى هذا الوضع الخطير والمخزي.

صورة البرجوازية المصرية أمام العالم.. وأمام نفسها

منذ تأسست الدولة الحديثة، كان لدى مصر المعاصرة هوس حقيقى بصورتها أمام العالم، هوس استدعى معه جهد واستثمار كبيرين في محاولة رسم وتثبيت صورة بعينها لدى الخارج. وفي هذا؛ كانت مصر كأي بلد نال استقلاله حديثًا عن استعمار أجنبي، ويريد أن يثبت لهذا الاستعمار جدارته بالاستقلال، وكانت النخب والبرجوازيات الوطنية تريد إثبات أحقيتها في وراثة دولة الاحتلال، وتأكيد شرعية واستحقاق تمثيلها للسكان المحليين. وفى طور آخر أكثر عصبية وتعجلاً، أرادت تلك النخب والبرجوازيات إثبات أنها لا تقل معاصرة وتقدمًا عن مستعمريها السابقين. محاولات تلك النخب أفرزت صورة يختلط فيها الإحساس بالعظمة مع الشعور بالاضطهاد والظلم التاريخي، المعطوف على إحساس بالخجل والعار من السكان المحليين الذين يتشكلون من فلاحين متخلفين، وما شابههم من فقراء المدن.

صحيح أن ما سبق ينطبق على غالبية دول ما بعد الاستقلال، لكني أرى في مصر مثالاً أكثر تكثيفًا، فقد تأسست تصورات وطنيتها الحديثة على أساس وراثة مجد عمره آلاف السنين، وعلى التمسك بفكرة وجود تماسك عضوي، لأمة تشكلت وتأسست وحدتها منذ عهد الملك نارمر في 3200 سنة قبل الميلاد. فلقد درسنا في المدارس: أن مصر كانت محتلة، ولم يحكمها أهلها منذ الأسرة الثلاثين وحتى جمال عبد الناصر عام 1952، أي أنها لم تر حاكمًا مصريًا لفترة تربو على 2400 عام. لكن هذا لم يمنع أيضًا إضفاء طابع مصري على كل ما حدث بين هذين التاريخين، واعتبار أن كل فاتح ومحتل قد تم هضمه داخل عظمة وتفرد “البوتقة الحضارية المصرية”، التي تصهر الغزاة وتدمجهم في نسيجها الحضاري. ولهذا نجد أن الجيش المصري المعاصر يعتبر أن معاركه وفتوحاته هو نفسه تبدأ مع تحرير أحمس للدلتا، وأنه المنتصر في معركة مجدو لتحتمس الثالث، وقادش لرمسيس الثاني، وصولاً إلى فتوحات ابراهيم باشا في الشام، وحرب أكتوبر 1973. ويمكن للقارئ التأكد من ذلك بالنظر إلى الجداريات الخارجية للكليات العسكرية المصرية.

في جانب من جوانبها، وضعت التصورات الوطنية نفسها في موقع العائد الجليل لعالم العصرنة الذي غاب عنه قليلاً، وعلى هذا العالم أن يعترف باستحقاق مصر تلك العودة. واستبطنت تلك التصورات أن تخلفنا الحالى هو مجرد جملة اعتراضية في مسار من العظمة ممتد منذ آلاف السنين، وشابه انقطاع مؤقت بسبب شرور الأخرين. فتاريخيًا؛ حضارتنا هى “فجر الضمير الإنساني”، ودينيًا؛ نحن قلب خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. والذات المصرية المعاصرة -بحسب نفسها- هي الأعرق والأكثر تعقيدًا، ووريث شرعي لماضٍ لا تزال عظمته محل إجماع وإجلال دوليين.

وليست للوطنية المصرية وثائق رسمية أوضح من دساتيرها. في ديباجة دستور 1923 الذي صدر في صورة منحة من الملك فؤاد الأول لشعبه المصري، ما يفيد بأن الدستور الممنوح هو خطوة جاءت “حرصًا على النهوض بشعبنا إلى المنزلة العليا التي يؤهله لها ذكاؤه واستعداده، وتتفق مع عظمته التاريخية القديمة، وتسمح له بتبوُّء المكان اللائق به بين شعوب العالم المتمدين”.

الملك فؤاد الأول أصدر دستور 1923 فى صورة منحة ملكية إلى الشعب

 وبين منحة الملك فؤاد عام 1923، وعام 2013 تسعين عامًا بالتمام والكمال، تطورت خلالها النعرات الوطنية وهوس الافتتان الركيك بالذات حتى أفضت إلى ديباجة دستور 2014، التي سُطِر فيها أن “مصر هبة المصريين للإنسانية، قلب العالم كله وملتقى حضاراته وثقافاته، ومفترق طرق مواصلاته البحرية واتصالاته، ورأس أفريقيا وفجر الضمير الإنساني، وأول دولة مركزية ومهد الدين قبل الأديان السماوية، ولاحقا راية مجد الأديان السماوية. جندها هم خير أجناد الأرض جهادًا في سبيل الله، وناشرة رسالة الحق وعلوم الدين في العالمين”. ولزم التنويه أن “العالمين” عند بعض المفسرين هو عالمي الإنس والجن، وقد نبهني إلى ذلك الصديق الروائي أحمد ناجى فك الله أسره.

الصورة ذات النعرة لم تكن بالطبع هي كل تصورات حراس الوطنية المصرية عن أنفسهم؛فالبرجوازيات المحلية إذ ترى في نفسها وريثة كل هذه العظمة، فهى تصطدم أيضا بواقع قيادتها لبلد متخلف، وتمثيلها لسكان جهلاء أغلبهم كانوا من الفلاحين المعدمين. لذا فالصورة عن الذات كانت كوتر مشدود بين خارج يستجدون منه الاعتراف بعظمتنا المستحقة، وداخل قوامه الأكبر فلاحين يشعروهم بالعار، ويعطلون مسيرة استعادة المجد التليد. وذلك في الوقت الذي تستثمر فيه تلك البرجوازية في بؤسهم؛ إلى حد الميل نحو إبقائهم جهلاء، طالما ضمن هذا الجهل الحفاظ على هرم اجتماعي مختل وبغيض.

فالنعرة إذن -في نظري- ليست جموحًا أيديولوجيا بلا وظيفة، بل هي أزيز كاذب، يغذي مسوغات الحفاظ على بنية التخلف ونفض يد البرجوازية الوطنية عن مسؤوليتها عن تلك البنية. مع الشكوى في ذات الوقت من هذا الاختلال عبر تحميل العامة الجهلاء، أو الخارج المتآمر مسؤولية الجانب الأكبر منه .

ما سبق بتطوراته التاريخية أنتج تعقيدًا أفضى بنا إلى اللحظة المعاصرة، التي تتسم بالغرائبية في علاقتنا بالعالم وبالذات الوطنية. لقد أنتجت التصورات الوطنية المصرية نعراتها الخاصة، وورثتها للأجيال التي نشأت في ظلها، حتى أصبح للمؤمنين بها أثقال من العظمة وفيوض من الشموخ، بصرف النظر عن الواقع اليومى الذي ينافي تلك المعاني. فما الناتج إذن غير كل ماهو خطير؟ أو ما نراه الآن من فيوض الكراهية الموزعة عشوائيًا في الداخل، ونحو الخارج؟

لقد حوصرنا لعشرات السنين بهوس اسمه “صورة مصر أمام العالم”، هوس كان يصيب الواحد منا وقتها بالاختناق وربما الاشمئزاز، لأنه كان مسكونًا بكل سمات الدونية والزيف. كان معنى تصدير صورة ناصعة للعالم عن الذات أن تخفي مصر فقراءها عن أعين الأجانب، أن تخفيهم لحد الاحتجاز المؤقت في أقسام الشرطة بينما تدهن الأرصفة وتنظف الشوارع فقط عند زيارة وفد أجنبى ما. كانت الأقلام الصحفية الرسمية خاصة من منتصف سبعينيات القرن العشرين؛ تدين وتهاجم السينما الواقعية بتهمة تشويه صورة مصر ونشر غسيلها المتسخ أمام الخارج، ولم تفلت الإسهامات الروائية من نفس التهمة. وفي لحظات أكثر عبثًا؛ أصبح تحسين صورة مصر، أهم من مصر نفسها، حتى أن وزارة السياحة أنتجت مرة إعلانًا دعائيًا يحذر المصريين من تفشي ظاهرة التحرش الجنسي بالنساء، لأنه يضعف السياحة ويشوه صورة مصر أمام العالم.

صورة أصبحت عبئًا

الأمر سابق على انعطافات عالم ما بعد 30 يونيو 2013 بالطبع. ربما أجازف بالقول بأن لبناته تعود إلى الارتباكات التي أنتجها سؤال الأصالة والمعاصرة الزائف، والملتصق بما أسموه “حداثة مصرية” حمل وعيها الشعبي منذ مولدها منحىً متنطعًا على الفضائل، مفاده أن علينا أن نأخذ من الغرب المتقدم ما يناسبنا وننبذ ما خالف ذلك. الـ”نحن” هنا عائدة بالطبع على الطبقات المهيمنة ومصالحها وتصوراتها عن الحياة وإعادة إنتاجها، لذا ستكون فنون الباليه أو المولات وأنماط الاستهلاك المتأمركة؛ علامات للتقدم. إنما الديمقراطية لكل الشعب، أو المساواة الكاملة بين الجنسين، فهي من علامات التدخل الأجنبي، والافتئات على هوية الأمة وخصوصيتها.

ببطء، ولسنين طويلة، ومع التعثرات المتتالية لمشروع دولة ما بعد الاستقلال، أصبحت علاقتنا مع العالم أكثر تعقيدًا وتأزمًا. وبين الثنايا الزمنية لارتباكات سؤال الأصالة والمعاصرة؛ أهدرنا وقتًا طويلاً جدًا، أصبح معه سؤال التقدم أكثر إحباطًا وبُعدًا. ففي بدايات دولة ما بعد الاستقلال؛ كانت الانحيازات الحداثية ومظاهرها تحمل قدرًا من الصدق والمشروعية الشعبية، وكان سؤالي التقدم واللحاق بالشمال المتقدم سؤالين جديين ومحليين، وكان الأمل في الوصول لإجابتهما لا يزال حيًا.

لكن مع تراكم التعثرات والهزائم، وتضعضع القيم الجمهورية وسيطرة مكونات رجعية بالكامل على مشروع الدولة؛ أصبح إعلان الحفاظ على تلك الانحيازات الحداثية مجرد عمل من أعمال تجميل السلطة البرجوازية، ووسيلة من وسائل إبقائها. وإزاء افتقاد المشروع الوطني لمقومات وطنيته المرتبطة بشموله لغالبية فئات المواطنين؛ أصبح هناك طلب متزايد على استجداء الاعتراف من الغرب بجدارتنا كأمم مستقلة. والأمة هنا هي سلطة تلك البرجوازيات وقدرتها على الحكم بالطبع.

الشيخ الطبيب وجدى غنيم كرمز للاستهزاء الصحوى بالحداثة

وإذا أخذنا في الاعتبار أننا قضينا العقود الأربعة الأخيرة تحت تأثير الحضور الطاغي لخطابات الصحوة الإسلامية، التي كانت ترى أدبياتها الشعبية: أن تجربة الحداثة بالمجمل، ومعها بالطبع تقديم “صورة ناصعة عن الذات” للعالم؛ هو نوع من الدونية واستجداء الغرب، وأنه في المقابل: علينا الفخر ببنية تخلفنا المحلي والاستثمار فيه باعتبار ذلك مقاومة وصحوة وتمسك بالهوية. يمكننا إذن أن نفهم مقدار العبء القيمي الواقع على “الدولة اليوليوية” المعاصرة؛ جراء تبنيها “لمظاهر حداثية غربية”، مع تمام اليقين بأنها تراوغ في ذلك التبني، ولا تؤمن به بحكم الطبيعة الرجعية لتحالفها الاجتماعي المهيمن، الذي لا يخلو خطابه من مفردات الصحوة الإسلامية نفسها.

في سياقات كهذه تصبح الديمقراطية أو حقوق الإنسان، أو مساواة الجنسين الكاملة، أو الحرية النقابية أجندات أجنبية تضطر الدولة “الوطنية” لتبني بعضها من باب المرواغة، مع الاحتفاظ بكراهيتها لها واعتبارها عملاً من أعمال الضغط الدولي. لقد سمحت الدولة في عهد مبارك مثلاً لمنظمات المجتمع المدني بالحركة، وتبنت -خطابيًا- مفردات التحول الديمقراطي، لكنها لم تسامح أبدا أي كيان أو فرد مستقل عنها تبنى هذا الكلام، واعتبرته عميلاً غربيًا، وطابورًا خامسًا إلى أن يثبت العكس. وفي أوقات الحقيقة، كلحظتنا الراهنة، ذهبت بهم إلى المحاكم .

انعتاقات ما بعد يونيو 2013

سن أنور السادات سُنَّة سياسية وتحليلية مدمرة فيما يخص العلاقة بالقوى العظمى، إذ اعتبر أن “الولايات المتحدة تمتلك 99% من أوراق اللعبة” الإقليمية. وبعد أن خلق عالمه وورّثه لمن بعده، وفي ظل المزيد من الهزائم الداخلية لمشروع الدولة، أصبح ذلك التصور هو المهيمن على خيال من يقبله أو يرفضه على حد سواء، بصرف النظر عن حقيقته. حتى أنه امتد ليكون تصورًا حاكمًا بشأن أوراق اللعبة الداخلية، فنجد مصطفي الفقي سكرتير حسنى مبارك السابق لشؤون المعلومات يقول إن الولايات المتحدة يجب أن توافق على شخص أي رئيس جديد لمصر.

ظلت هذه المقولة الساداتية مهيمنة على مخيلة وقرار النخب المسيسة في مصر، لكن يناير 2011، وأكثر منها يونيو 2013 جاءا لإثبات زيف وضحالة هذه المقولة، وأن إرادة المكونات الداخلية -لو امتلكت القدرة على الحشد والتعبئة- لها القول الفاصل في تقرير المصائر. وأنه ليس هناك 99%، ولا حتى نصف ذلك من الأوراق في يد أمريكا، خاصة بعد تعثرها المُذِل في العراق. واحتاجت النخب والمكونات السياسة في مصر فترة حتى تدرك حقيقة أن هناك هوامش كبيرة جدًا للمناورة والحركة، وكان ثمن ذلك الإدراك فادحًا لدى البعض كالإخوان المسلمين، وكان مكسبًا مفيدُا جدًا لدى البعض الآخر كما في حال القوات المسلحة.

عالم انعطافات ما بعد 30 يونيو، وبالرغم من أن شعاره الرئيس: حماية مصر من التدخل الخارجي والضرب بيد من حديد على الطابور الخامس في الداخل؛ إلا أن المكونات المنتصرة أصبحت تدرك حقيقة ضعف دور المكون الخارجي في التأثير على القرارات الداخلية الحاسمة. هذا الإدراك أنتج في وعى المنتصرين شعورًا بالتحرر من قيد تلبية المتطلبات والاشتراطات الغربية السابقة، التي ظنوا أنهم مجبرين عليها. تلك المتطلبات التي وصفتها سابقًا بأنها بأنها نوع من الصلة الإضطرارية لمصر مع العالم .

أنتجت انعطافات ما بعد 30 يونيو انعتاقًا للوطنية المصرية من أكثر من قيد، على رأسها: وزن القرار الأمريكى على مجريات السياسة المحلية في مصر، والذي ثبت ضعفه الشديد قياسًا للأوهام كانت مترسخة في ذهن الدولة نفسها. والقيد الثاني: كان الانعتاق من الابتزاز الخطابى لجماعة الإخوان المسلمين، القلب الصلب للصحوة الإسلامية التي طالما وسمت دولة يوليو بإعتبارها أداة في يد الغرب، فإذا بالآية تنقلب، وتأتى انعطافة مابعد 30 يونيو وما تلاها، لتخرج الإخوان من “الجماعة الوطنية” بإسم نفس التهمة، وبتأييد شعبى كبير.

لقد تحول جدل صورتنا أمام العالم، أو فلنقل الجدل حول ما تبقى من قشرة الحداثة بين “الوطنية اليوليوية” والصحوة الاسلامية عبر سنين طويلة، من فكرة محورية الحفاظ على الصورة كمكافئ للتقدم؛ لفكرة الحفاظ عليها كمكافئ للخنوع وانعدام الاستقلال. وللعجب فقد انتصر منطق الصحوة الإسلامية في النهاية، لكنه انتصر ضد الإخوان المسلمين بالذات، حين تبنته الوطنية اليوليوية في طورها الفاشي عندما قررت سحقهم. إنه مَكْر التاريخ.

مهرجان لحرق الكتب فى الإدارة التعليمية بالجيزة عام 2015

هذان الانعتاقان الكبيران سهلا إمكانية التحرر من الالتزامات الحداثية والمعاصرة نفسها، التي أوضحت في وقت مبكر من هذا المقال أن كثير منها كان يتم الأخذ به دون اقتناع، وبإضطرار شديد. وإذا أضفنا إلى ماسبق إدراك الفاعلين المصريين المهيمنين داخليًا أن الصراع وجودي، وابن لتموجات وانقباضات ثورية تجعل الحفاظ على المصالح الوجودية للكتل المهيمنة، مسألة حياة أو موت؛ وأن الصراع الداخلى هو من القسوة والمصيرية إلى درجة تتضاءل بجانبها أهمية صورة تلك الكتل في الخارج، طالما أن الخارج ليس له دور حاسم في مجريات الصراع، يضاف إلى ذلك أن المحاولة الشرسة والعدوانية من عالم 30 يونيو لتهميش عالم 25 يناير كان لها أثر واضح على تواصل مصر مع العالم الخارجي، الذي تميز فيه العالم الثاني (يناير) بتمكنه من أدواته، وامتلاكه سلاح المصداقية على عكس عالم يونيو. ما سبق كله أفضى إلى إطلاق العنان للنعرات الوطنية المصرية بهذا المستوى غير المسبوق.

توسُّع واضطراب مصفوفة الخصومة.. والعداء

ولما كنا نتحدث عن صورتنا أمام العالم، فيجب أن نحدد أولا عن أي عالم نتحدث. في بدايات دولة ما بعد الاستقلال، كانت هناك حزمة من المعايير المنطقية انبنت عليها مشاعر الخصومة أو المودة تجاه دول العالم، وكان لها أساس قيمي ما. مصر وقتها كدولة حديثة الاستقلال كانت صديقة لشعوب العالم الثالث الباحثة عن التحرر الوطني، وكانت مؤسسة لحركة عدم الانحياز، وكان المصريون يحبون فعلاً شعوب الهند ويوغوسلافيا وغيرها من الدول الساعية للاستقلال. وبالطبع وفي المقدمة، يحبون الشعوب العربية والإفريقية. كانت المشاعر تخاصم أو تتشكك في دول الاستعمار القديم والجديد، وكانت رؤية العداء مع إسرائيل تقوم بالأساس على فكرة كونها: “رأس حربة هذا الاستعمار في المنطقة”، وبالتالي؛ وجودها هو تهديد لتطورنا وتقدمنا وسعادتنا.

لكن مرة أخرى ومع تراكم خيبات الدولة الوطنية وتعثراتها، ارتبكت المعايير التي تضع مصفوفة الخصومات والصداقات لديها. فمن زاوية مادية وواقعية توطدت العلاقة بالولايات المتحدة “الاستعمار الجديد”، وتوطدت أكثر مع إسرائيل “العدو الوجودي ورأس حربة الاستعمار”. لكن في نفس الوقت؛ جرى إنتاج خطابات ممانعة تتأفف من الدولتين، وتؤكد على عداوة أبدية معهما ذات مداليل ثقافية وحضارية يمكن أن تمتد لآخر الزمان. وقد أسهمت الصحوة الإسلامية بالطبع في نسج هذا النوع من التصورات المتخاصمة مع الغرب، القائمة على فكرة أزلية الخصومة “ولن ترض عنك اليهود والنصارى”. والإشكال في فكرة أزلية الخصومة؛ أنها عمليا تعني تثبيت الأوضاع على ما هي عليه من تعاون سري مع “الخصوم الحضاريين”، بالتوازي مع تعميق وشائج الكراهية إعلاميًا وشعبيًا معهم.

ومن زاوية أخرى جاءت مقولة “مصر أولاً” التي رفعها السادات في السبعينيات، لتكون إشارة بدء لإنتاج خطابات استعلاء وكراهية ضد الشعوب العربية وشعوب العالم الثالث، تقوم على نبذ شعارات الدعم والتعاون الديماجوجية التي رفعها عبد الناصر، واعتبار أن هذا الخط هو سبب تراجع مصر وتعثرها وإفقارها. وبناءً عليه تم إرساء حالة من التشهير والنفور ضد الفلسطينيين، والتعالي على السودانيين، ثم تبعهما طابور طويل يبدأ بالجزائريين ويمتد ليشمل كل شعب عربي وإفريقي “غير غني”. كان يمكن للحالة الـ”ضد ناصرية” التي أرساها السادات أن تكون مجرد طارئ على المشهد؛ إلا أنها ترسخت بشكل أكبر من تخيل الكثيرين.

رفع أنورالسادات شعار مصر أولا وأنطلقت معه أمزجة العداء للعرب والعجم

تطور الخصومات الهوياتية مع “الآخرين عمومًا”، وتراكمها عبر عقود، أنتج مصفوفة عجيبة من الخصومات النفسية التي يمكن استدعاؤها في أية لحظة، لتكون خصومة سياسية ضد تشكيلة عجيبة ومتنافرة من الدول والأمم. تختلط فيها أحاسيس عظمة الذات الجريحة المهزومة، بالإستعلاء الوطني والحضاري والديني كل في موضعه، ومع الهدف المناسب.

فيمكن للنزعات اليمينية أن تصيغ خطاب خصومة له أسطورته ومفرداته ضد أيا من كان، فالمكون الإسلامي في الخطاب الوطني يستطيع إن إراد استدعاء إشكاله الحضاري الديني مع الغرب، ويستطيع أن يستدعي خصومته المذهبية مع ايران الشيعية. كما يمكن للمكون القومي المصري أن يصيغ نفس الإشكال مع الغرب بإسم الإرث الإستعماري، وشرحه مع تركيا وإرثها العثماني. ويستطيع استدعاء مقولاته الإستعلائية أو حتى العنصرية ضد الدول العربية والإفريقية.

ومع تزايد أزمات النظام السياسية، وشعور المؤسسات الأمنية بضعف سيطرتها على المشهد؛ أصبحت مقولة “مصر مستهدفة” مقولة حاكمة في النظر للعلاقات مع الخارج، بحيث لو تعقدت الأمور أكثر؛ يتطور مفهوم الاستهداف لمفهوم المؤامرة.

إحساس النخب الحاكمة بتهديد بنية الدولة بعد يناير 2011، ثم دخولها في معركة وجودية مع الإخوان في 2013، ثم مع إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية بعد ذلك؛ جعل خطاب المؤامرة الخارجية أكثر حضورًا وطغيانًا، لدرجة جعلت الحديث عن المؤامرة الخارجية مكرورًا ومبتذلاً، خاصة مع غياب التسمية المعلنة لهؤلاء المتآمرين. فنجد كلامًا مرسلاً من أول رأس الدولة وحتى أصغر مسؤوليها عن حروب الجيل الرابع الموجهة ضد مصر من أطراف خارجية من دون ذكر طرف خارجي واحد. وبالتأمل في طبيعة تلك الحروب الموجهة ضد مصر، سنجد أن معيار العدوان هو: مجرد تبني الخارج مقولات وعقائد سياسية لاتتبناها الدولة حاليًا، فتصبح مثلاً المؤتمرات الدولية المعنية بحركة حقوق الإنسان جزءًا من المؤامرة والحرب.

لقد استندت الدولة لمبدأ إشكالي وإن بدا سليمًا نظريًا في التعامل مع الخارج، يقول: إننا نعادي من يعادينا، ونصادق من يصادقنا. بيد أن محورية الذات ونرجسيتها في هذا المبدأ حاضر وبقوة، حيث أن المعيار الوحيد: هو موقف الآخر من “الذات = الحكم الحالى في مصر”، وليس سلامة هذا الموقف أو مشروعية انحيازاته القيمية والأيديولوجية. وبالتالى إذا رأي الحُكْمُ مثلاً أن حديث الديمقراطية الآن مكافئ للدعوة لإنهيار الدولة، وكان رأي الخارج مختلفًا معه استنادا لقناعاته؛ يصبح هذا الخارج وعلى الفور متآمرًا ضد مصر.

مصر الحالية لم تعد تمتن ولا تشعر بالصداقة إلا ناحية الدول التي تدعم نظامها الحالى بسخاء مالي وسياسي، شريطة ألّا تطلب تلك الدول شيئًا يخالف رؤية النظام الحاكم، مثل السعودية والإمارات، ومادون ذلك يعتبر عبئًا عليها وإسهامًا في انهيارها. لكن هؤلاء الحلفاء لم يسلموا أيضا من أسهم الإستعلاء في أحاديث رجال الحكم عنهم، والتي وصفتهم في تسريبات كاشفة: بأنهم مجرد أنصاف دول ليس لديها خيار إلا دعم مصر!

استمراء حديث المؤامرة الخارجية أثمر فيوضًا من العدوان المجاني من قِبل مؤيدى النظام وعناصره، وبشكل ميكانيكي وعفوي وخارج عن السيطرة. فحين ضربت طائرات الأباتشى المصرية عن طريق الخطأ قافلة سائحين مكسيكيين في الصحراء الغربية وقتلت منهم عددًا؛ ظهرت على الفور أصوات مؤيدة للنظام تتحدث بشك وريبة واتهام، عن معنى ومغزى وجود المكسيكيين في الصحراء الغربية. وأصبح توقيف وفود وباحثين أجانب ومنعهم من دخول البلاد، أو طردهم أمرًا اعتياديًا.

وأغلب الظن أن العنصر الأمني الذي قتل الباحث الإيطالى جوليو ريجينى تحت التعذيب لم يتلق توجيهًا مباشرًا أو موافقة من رئيس الجمهورية أو وزير الداخلية على جريمته، بل هو مواطن يعمل في جهاز أمني ما، ويحمل عقيدة دولته في طورها الفاشي الحالي. هذا يكفي في هذه اللحظة الزمنية من تاريخ مصر للقبض على جوليو ريجينى والتطوع بتعذيبه حتى الموت للشك في كونه جاسوس. إنها مجرد قطرات من فيوض شراسة فاشي-عسكرية منفلتة العقال، لدرجة جعلت وزير الداخلية يصدر توجيها فور العثور على جثة ريجينى بأن يتم إبلاغ مكتبه شخصيًا في حالة القبض على أي أجنبي.

البحث الطائش عن عداء العالم

مصر من الأصل بلد محظوظ بميل العالم إلى محبته، فسكان العالم يودون زيارتها ويحترمونها حتى لو لم تقدم مصر إسهامًا تأسيسيًا معاصرًا له وزن، وهذا أمر لا تتمتع به كل دول العالم الكبيرة. فمصر- كمكان على الأقل – في وعي العالم الحديث؛ هي فعلاً فجر الضمير الإنساني، وهي مرتبة لم تتحصل عليها حضارات أقدم من الحضارة المصرية كالهندية والصينية. نشأت مقدمات هذه الرؤية مع انتهاء الحملة الفرنسية والزهو البونابرتي بنتائجها المعرفية، التي تم تسويقها للنخب الفرنسية بإعتبارها إعادة اكتشاف العالم الحديث لجذوره الأخلاقية والحضارية.

في عام 2009 حين أراد باراك أوباما تعديل سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، تمهيدًا لتنفيذ استراتيجية انسحابية من المنطقة، اختار القاهرة ليخاطب منها العالم العربي والإسلامي. وحين انفجر الربيع العربي كانت محطته المصرية هي الأكثر لفتًا للانظار، وهي من بعثت الأمل وشكلت الملحمة. وتصور العالم وأمِل، أن مصر الجديدة تستطيع أن تكون قاطرة التغيير للمنطقة / الورطة. لكن أسفر الربيع العربي عن تجذرات أطاحت بأجسام الدول، ولم تستطع أن تنشئ مكانها مشاريع قابله للاستدامة، وتحول تنظيم الإخوان المسلمين من مشروع شريك استراتيجى كبير إلى محض جماعة تعيسة ومنحطة، لا تقوى حتى على عمل مناورة سياسية تنقذها من التحول إلى كومة تراب بعد 30 يونيو 2013. لقد راهنت الولايات المتحدة بانتهازية على جماعة الإخوان المسلمين، بغية أن تكون هي الرأس لتحول ديمقراطي ضيق الأفق في مصر والمنطقة. وتصورت الإمبريالية أن هذا التنظيم السنَّي المحافظ المتماسك ذي الجذور الشعبية، يستطيع أن يقود المنطقة إلى ضفاف آمنة ومتعاونة معها فى ضوء سياستها الانسحابية الجديدة، أي: إلى تغيير لا يفضى فعلاً إلى أي تغيير.

ولما كانت نظرة الولايات المتحدة وشركائها إلى الأنظمة العربية من الأصل لا تحمل إلا الاحتقار، والتعاون الاضطراري مع اليقين بأن زوال تلك الدول بشكلها الحالي مسألة وقت، فضلا عن الرؤية المتصلبة التي لا تتزحزح ناحية أي مكون سياسي أو حقوقي مختلف بإعتباره على هامش اللعبة، فكل ما سبق أفضى إلى التعامل مع مصر على أنها عملاق تعيس مخيب للرجاء. وأصبحت هي قلب الإقليم / الورطة، ورجلها المريض الذي لايمكن السماح بسقوطه، في حين أنه لا يساعد نفسه، ولا يقوم بدوره القيادى ناحية غيره، ولا يتوقف عن طلب المساعدات التي يستجديها في الخارج، ويلعن من قدموها له في الداخل بمنتهى الصلف والتعالي.

الأمر غير مسبوق بالفعل، فربما تكون هذه الأيام هى الأكثر عزلة لمصر في تاريخها الحديث، على المستوى الدولي قبل الإقليمي. فمنذ عامين وأكثر، أصبح اسم مصر في العالم مرتبط بكل ما هو غريب، ومع ذلك مازال العالم الخارجى يرانا ويتابعنا بالرغم من النداءات الداخلية المتشنجة التى تطالب بالعزلة، لكنه يتعامل مع ترهات الفاشية الوطنية بمزيج من التعاطي الطريف، والإندهاش القَلِقْ، والإشمئزاز. و في المقابل –العبثي- يتم التعامل “وطنيا” مع كبريات الصحف ووسائل الإعلام العالمية، على أنها وسائط مخترقة إخوانيًا.

سيدة من بسطاء القوم تقرأ كتاب كفاحى لهتلرعلى أحد أرصفة فى القاهرة

المحصلة في المجمل سلبية، وتدعو الخارج لنفض اليد وفك الارتباط. أو إلى التدخل البارد المنزوع عنه أي حس رؤيوي، إلا مجرد منع هذا الكيان العملاق من الإنهيار. والعالم يتابع جيدًا خطاب الكراهية المنفلت السائد في مصر بعد 30 يونيو، ولكنه لا يبادل تلك الكراهية بكراهية، بل أصبح يقابلها بازدراء ظهر في رد مندوبة الولايات المتحدة على مندوب مصر في مجلس الأمن، بعدما قال مندوب مصر إن السعي لتجريم الاغتصاب والتحرش الجنسي من قِبَل أفراد القوات الأممية، هو نوع من الطموح الشخصي للمندوبة الأمريكية. لم لا، ورأس الدولة في حديث رسمى لوسائل إعلام عالمية يوجه كلامه إلى أوروبا قائلاً: إن انهيار الدولة في مصر سيحول 90 مليون نسمة إلى لاجئين يغرقون شواطئ أوروبا بفيض من مراكب الهجرة. لقد انتهى العملاق إذن إلى محض تهديد لأوروبا بطوفان من الفئران اللاجئة، وعلى أوروبا أن تتخذ من التدابير ما يمنع ذلك.

“أم الدنيا” هنا تعترف بأن ليس لديها ما تهديه للدنيا سوى التهديد بأن يعاني العالم من بؤس وتداعيات انهياراها. فلما إذن لا تُقَابَل الكراهية بإزدراء؟ أو ربما لاحقًا بسياسات تشبه الحجر صحي أوالإحتلال الجراحي.

ما العمل إذن؟ وهل هناك عمل؟

ثورة يناير 2011 كانت مناسبة لإعلان مكونات مصر التقدمية نوعًا من التصالح مع العالم الخارجي، ولم تعتبر تعاطف حكومات الغرب المعلن مع الثورة انتقاصًا من شرعيتها ووطنيتها. استمرت المظاهرات 18 يومًا في ظل ترنح شديد للدولة وقدرتها على تأمين أي شيء، وذلك دون أن تُهَاجَم سفارة أجنبية واحدة، أو حتى يتم التظاهر أمامها، رغم أن السفارتين الأمريكية والبريطانية كانتا على مرمى حجر من معتصمي التحرير. حتى إسرائيل المُجمَع على عدائِها محليًا؛ لم تتوجه حشود للتظاهر أمام سفارتها إلا بعد الثورة بشهور. وربما كان ذلك أحد أسباب تبنى قطاعات من أجهزة الدولة الأمنية لفكرة أن الثورة مدبرة من الخارج.

غياب المكون المُعادي للإمبريالية في خطاب ثورة يناير لم يكن مرده غياب العداء؛ بقدر ما كان ترشيدًا للإستثمار فيه، وتفعيلا لتكتيك التناقض الرئيسي والتناقض الثانوى، فمن زاوية لم تتخذ أي دولة خارجية محورية موقفًا معلنًا معاديًا للثورة ودعم للنظام، سوى المملكة العربية السعودية. وفي المقابل ومنذ اللحظات الأولى؛ استخدمت الدولة خطاب المؤامرة الخارجية من كل دول العالم تقريبًا وبإفراط معتوه ضد الثورة، حتى أن التلفزيون الرسمي في لحظات ترنحه أذاع خبر القبض على مهندس بلغارى في الإسماعيلية “انتهى الخبر”، كدليل على وجود مؤامرة أجنبية على مصر.

أبناء ثورة يناير بدورهم ليسوا متحررين بالطبع من تابوهات صورة مصر أمام العالم، فهم أيضا نبت “الوطنية المصرية” ما بعد انتهاء الاستعمار، لذا فقد فرحوا جدا بخطاب باراك أوباما العاطفي يوم 11 فبراير 2011، وفخروا بزيارة ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا لميدان التحرير. وراحوا يتشاركون مقولات مشكوك في صحة بعضها حول محورية ثورة مصر في التاريخ الانساني “الثورة التي أبهرت العالم”.

ثورة يناير كان من بين متقدمي صفوفها قطاعات من الشباب المتصل بالعالم الخارجي، والمستخدم الكفؤ لأدوات التواصل الحديثة. وبحكم هذا الاتصال كان لديهم إدراك واع وحزين للتدهور الذي وصل إليه مشروع الدولة الوطنية في مصر، واعتبروا أن يقظة يناير فرصة مناسبة لإعادة اللحمة مع العالم من أرضية تتوخى الندية، ومتحررة في ذات الوقت من أثقال خطابات الهوية ومتاهاتها العدوانية.

لكن الأمور سارت في مساراتها الحزينة والمأساوية بالشكل الذي لا يجعل للحديث السياسي مكانًا في ظل تهشيم السياسة وملاحقتها بالقمع الشرس، أو بفرض الجدل الرديء المنحط. وفي مسألة كالتي حاولت تلمس بعض جوانبها، يحتاج الأمر مزيدًا من النقاش، يتعلق في الأساس بمداخل الاشتباك الخطابي مع ماهو سائد حاليًا من مقولات وممارسات باسم الوطنية ودولتها.

لذا أعتقد أن هذا أوان التحلي بالشجاعة وتسمية الأشياء بمسمياتها، وأن الطور الحالي من الرطانة الوطنية المصرية؛ أصبحت انحطاطًا يجب محاربته. وأننا في هذه البلاد، ورغم تعثراتنا الشديدة؛ إلا أننا قد اجتزنا سنوات من التطور والتجارب، وأهمها تجربة ثورة يناير، التي تمكننا من اعتبار الرطانة الوطنية انحطاط يميني خالص، بصرف النظر عن دوره في مجابهة الهوس الفاشي الإسلامي. وأنه حان الوقت لخلع الأردية التقدمية لخطاب التحرر الوطني عن الطور الحالي للخطاب الوطني السائد الرجعي، والمُعادي للتقدم بالفعل. وأن مشروع الدولة الوطنية أصبح الآن في عالم مغاير متعولم بالفعل. وبالتالى فإن مصفوفة الدلالات التى يُنظَر بها للذات والآخر؛ لم تعد ذات صلة بالواقع، وأصبح غرضها التشويش أكثر منه الإرشاد.

النبيذ القديم فسد ولا يمكن تعبئته في زجاجات جديدة، لأنه لا يمكن لبرجوازية يحمل كثير من أبنائها جنسيات أخرى، أو لهم ملاجئ إقليمية جاهزة للاستقبال في أي وقت، أو في زمن تستطيع فيه رؤوس الأموال “الوطنية” أن تهرب من “الوطن” في أيام، أو زمن تخضع فيه عناصر الأجهزة الأمنية والسيادية للتدريب والصيانة الكاملة عند “العدو الامريكى”. هذا زمن وتلك فئة لا يمكن معهما استخدام ذات التصورات الوطنية عن الاستقلال والهوية.. إنه محض تدليس وبلطجة.

ربما يرى البعض في دعوات الانفتاح على العالم مطية لتدمير الدولة الوطنية، لصالح إلحاق مذل ورسمي للإطار النيوليبرالي للعالم المعاصر. ليس لدي رد حاسم على ذلك، ولكن أصحاب هذه المقولات راحوا أبعد من ذلك، وتبنّى كثير منهم العداء أو عدم الارتياح لثورة يناير 2011، ووسموها بكونها ثورة أمريكية ملونة، على غرار انتفاضات أوكرانيا وجورجيا ودول أخرى. هؤلاء سيجدون أنفسهم في نهاية المطاف يدعون إلى فك الارتباط بالنظام العالمي، وهو محض هراء وتيبُّس عقلي من وجهة نظري. لأن اداعاءات فك الارتباط في اللحظة المعاصرة، لن تؤدى إلى تعزيز استقلال الدولة الوطنية المترنحة؛ بل ستعيد تأسيس الارتباط مع العالم من مواقع أكثر دونية، ومن أبواب “أكثر خلفية”، وسقوفا أدنى بكثير.

لقد مضى هذا الزمن، فمصر وقت كانت تمنع غالبية أشكال التجارة الإلكترونية؛ كانت على خط ساخن مع الولايات المتحدة من أجل استقبال معتقلي جوانتنامو لتعذيبهم في أقبية أجهزة الأمن في القاهرة. كما أن التزيُّد في العزلة المعلنة، أو تبني المزيد من ادعاءات فك الإرتباط لن يعنى عمليًا إلا المزيد من الاقتراب من إسرائيل، وتحولها إلى جسر التواصل الوحيد مع الغرب. أي أن تحقق الدولة الحالية وبإرادتها، كل كوابيس الوطنية المصرية مجتمعة .

لا أملك سوى أن أدعو العناصر الثورية التقدمية بالعمل على تحرير الخطاب المعادى للإمبريالية من ابتذال المهيمنين عليه، وهم أطراف خاضعة للإمبريالية ومنطق عملها فعلاً. ربما يكون هذا هو أول مفاتيح إزالة التباس أساسي من جملة التباسات تشكل علاقتنا الحالية بالعالم. وعلى تلك العناصر أن تؤمن بأن قيم الإخاء الإنساني والندية، في مقابل قتل الروح الهوياتية العدوانية داخل أدمغتنا، هو أمر لا مفر منه إن أردنا تحرير ذواتنا ووجداننا من الجنون الحالي. بوضوح أكثر: على النزعات الأممية ألّا تعتذر عن نفسها .

وسلاما على روح المغدور جوليو ريجينى.

جماهير نادى إمبولى الإيطالى تقول : إمبولى مع العمال المصريين وجوليو ريجينى ضحى فى المعركة

 

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

” نشر هذا المقال الطويل على موقع المنصة فى أبريل 2016 بعنوان أم الدنيا : ضد الدنيا وخارجها ، ويمكن اعتباره فى لحظة كتابته  نوعا من الاستشراف الأولي لما ستؤول اليه الأوضاع لاحقا من امتداد واستقرار نمطا مصريا من الفاشية ، تلك التى خلقت عالما جديدا كابوسيا بالفعل ، يتطلب البحث خلف جذوره الأيديولوجية ومحركاته…

أترك تعليق