البِْلى جواهرنا .. المدرسة معسكر تعذيبنا

إمتداد الصيف فى مصر يؤرق ذاكرتى ، لكنه يشعرنى بالرضا والحمد بالنجاة ، كنا نعود إلى المدرسة فى الأسبوع الثانى أو الثالث من سبتمبر ، تعداد الفصل فى أرحم الظروف كان 55 تلميذا وفى المتوسط كان 65 وسوء الحظ كان يمكن أن يزيده الى ال 70 .

أتذكر أن من رحمة الله أن الاكتظاظ الحار والاختناق الجماعى لم يكن ليدوم أكثر من اسبوع أو اثنين ، اتذكر أن ذكرى السادس من أكتوبر كانت تهل علينا بينما كنا نرتدى البلوفرات منزوعة الأكمام ” الجيليه ” .. لم يكن الصيف بهذه القسوة أو الأمتداد .

ذهبت إلى مدارس حكومية عامة بعد إنتهاء المرحلة الأبتدائية ، كانت مدارسنا العامة أشبه بمعسكرات الأعتقال ، صممت كى تحبس أكبر عدد ممكن من الأجساد ذات التستوستيرون الصاعد لأطول فترة ممكنة .. كانت لحظة دخول المعتقل اليومى كئيبة وثقيلة فى الصباح وكانت لحظة الإفراج فى اخر الظهيرة عارمة وخطرة .

ملامح الاعتقال والعسكرة كانت حاضرة فى كافة تفاصيل المكان .. أسوار بخوازيق مدببة حديدية وكسر زجاج حاد واسلاك شائكة عند بعض النقاط الخطرة .. شرطة مدرسية من الطلبة مهمتها كسر حالة التضامن بين المسجونين وتعليم البعض أن الوشاية فضيلة نظامية .. تحية العلم الوطنى من موقع الأسير .. مراحيض تفيض منها رائحة النشادر كما لو كان هناك امداد يومى من الخراء يأتى من خارج المكان فضلا عن انتاجنا المحلى .. مركز واحد لبيع المأكولات السيئة لتعليم المكابدة والصراع البدائى على الطعام .. حالة مستمرة وابدية من الصراع مشفوعة بوعد مرور الساعات ولحظات التفاؤل المتراكمة مع اقتراب نهاية الحصة الرابعة بعد الفسحة حيث تقترب النجاة بعد ساعة أو اثنين .

أستطيع ان أميز خريجى المدارس العامة بسرعة بالرغم من أن مسيرة حيواتهم تختلف مع دروب الزمن والتجربة ، فهم اقل إندهاشا واستحقاقا ، أكثر بداهة فى إدراك اللعنات ، لديهم تفهم حكيم لما يمكن أن يقذف به حقارة الصراع اليومى فى وجه الأنسان ، تماما كقدرتهم على تفادى اكياس البول المقذوفة فى الهواء من مصدر مجهول ، من سعادتهم بالنجاة اليومية واستعدادهم لمعركة جديدة فى اليوم التالى .. هؤلاء الذين تكثفت لحظات فرحتهم الذين لم يعرفوا مثلها إلا فى أخر أسبوع من شهر مايو .. لحظة اطلاق سراحهم المؤقت لمدة أربعة شهور .. لذلك كنا نحب الصيف اللعين ونحن صغارا .. ليس لأنه كان جافا لطيفا .. بل لأنه كان بطعم الحرية ولو مؤقتة .

**************

البلى والنواكل والتراب .. 

مثلما السجائر هى عملة السجون ، كان البلى هو ثروة الأطفال ، الوسيط الذى يعلمهم القيمة والملكية فى زمن كان الاستهلاك فيه ترفا بالتعريف ، كانت ألعابه مهارة أو سطوة أو شراكة أو جريمة ، كان أحجاما وألوانا واشكالا ، من خلال تبيانتها عرفنا الفرق وحددنا القيم ، النيكل ببليتين وربما ثلاثة ، النيكل هو بلية أكبر بلون واحد أما البلية العادة فهى صغيرة ومزخرفة بألوان ، هناك نواكل نادرة ومن ندرتها تستبدل بما هو اكثر من بليتين ، ربما خمسة أو عشرة ، كان هناك النيكل المائى الشفاف ، وكان هناك النيكل الصينى الأبيض المزخرف وكان هناك النيكل الحديد المصمت ، وكان هناك النيكل السوبر العملاق ذو الألوان الأحمر والأبيض والأزرق ، تماما كما لو كان الفرنسيين هم من أصطكوا مكانته العليا بين باقى النواكل .

ربما كان للفرنسيين سهما ما فى الأمر من البداية ، فطريقة وتكنيك لعب البلى الأساسية هى الفرينش يليها الدوفر ، لم نكن نعى وقتها أن الفرينش مشتقة من الفرنسى ، كنا نتخيلها فقط طريقة فى امساك البلى بين اصابعنا .

لعبت المثلث والطرنجلة والجيزة والحفرة ، وكنت أكثر اجادة فى المثلث ولا سيما على التراب ، كان الأسفلت مرهقا فى البلى ، النيشان فيه صعبا والتدحرج فيه أسهل ورسم الخطوط فيه مشقة .

شاركت حسن حفظى ثروتنا ، كان أكبر منى بثلاثة سنوات ، كنت ماهرا وكان لصا ، أدركت ذلك حين زادث ثروتنا بسرعة غير منطقية ، عرفت لاحقا أنه يكسب من لعب الرفة التى علمونا إنها قمار والقمار حرام ، كنا نخبيء الصندوق الصفيح تحت حجر يستقر أمام كشك تبيع فيه أمه اشياء لا قيمة لها بالمرة ، كنا نستلذ بخبيئة البلى تحت الحجر ، بالقلق اليومى من أن يسرق وبالفرح الليلى بعدم سرقته .

قررت فض الشراكة معه حين عرفت انه يسرق أولاد اخرين فى مناطق مجاورة ، قيل أنه كان يهم برمى البلى ثم يجرى بسرعة ليخطف ما فى المثلث ويعدو ، قررت فض الشراكة بالخسارة ، لم أكن أرغب الا فى النيكل المائى الأزرق ، الأزرق هو لونى المفضل ، فى تلك الأيام جاء إلى المنطقة ولد نصف مصرى نصف سعودى ، ذهب الى الخردواتى واشترى كميات فلكية من البلى تفسد منطق السوق والمنافسة والمعنى ، تكالب الأولاد على سرقته عنوة أو وضاعة او تذلل ، مللت بعدها من البلى .. وأتجهت إلى الأتارى .

 

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

إمتداد الصيف فى مصر يؤرق ذاكرتى ، لكنه يشعرنى بالرضا والحمد بالنجاة ، كنا نعود إلى المدرسة فى الأسبوع الثانى أو الثالث من سبتمبر ، تعداد الفصل فى أرحم الظروف كان 55 تلميذا وفى المتوسط كان 65 وسوء الحظ كان يمكن أن يزيده الى ال 70 . أتذكر أن من رحمة الله أن الاكتظاظ الحار…

أترك تعليق