لا تتردد فى الاعتراف .. إنها الفاشية

الأصل فى عقوبة السجن، أى سجن لأى إنسان ، إنها شيئ مؤسف ، تلجأ اليه أجهزة العدالة وإنفاذ القانون لتحقيق العدالة للمجتمع ، وفى هذه العقوبة يأمل المجتمع للفرد المعاقب أن تكون تجربته فى السجن سببا ومدخلا لحياة جديدة أفضل له بعد إنقضاء العقوبة ، وفى حال أن عقوبة السجن مؤبدة أو مدى الحياة فدلالة ذلك أن المطلوب هو عزل الأنسان عن المجتمع كونه خطرا محتملا عليه مع الإبقاء على فرصته فى الحياة وفقا للشروط العقابية تلك أملا فى أن يستخلص العبرة من تجربته وانعكاس هذه العبرة على نفسه .

 لكن فى كل الأحوال لا تفتخر المجتمعات السوية بالسجون ، لا تحتفل بوجودها ، لا تستعرض وجودها فى ذاته كمنجز بالعموم و لا تقدمه للعامة بشكل إحتفالى، فهذا ببساطة إرهاب وتهديد ووعيد وتذكرة للناس بأنه مصير محتمل جدا ، وأن الغرض منه ليس عقاب المجرم وتقويمه ، بل إعادة تربية من تسول له نفسه وفقا لشروط حضارية ، إعلان السجن المصرى ليس إعلانا عن سجن لمدانين بغرض اعادة تأهيلهم بل تبشيرا كابوسيا بحياة موازية محتملة مكتملة العناصر الأدمية لعناصر وجب تقويمهم بل انه أعلان لمعسكر ، معسكر شمولى فى القرن الحادى والعشرين لا غرض منه إلا ارهاب المشاهد وإرعابه وتذكرته بالإمكانية وبالتطبيع النفسى مع هذه الأمكانية والاستسلام لها .

تلك هى فاشية القرن الحادى والعشرين بطعم عسكرى ابوى تربوى ، يلون فيها السجين المحتمل صورة السيسى كجزء من عملية اعادة تأهيله،  هذا ليس خطأ غير مقصود أو لحظة جنوح لمهندسى الدعاية الأعلامية فى النظام ، هذه هى رسالتهم  الصافية لعامة الناس .

هذا ليس جنوحا بل خطا منطقيا لجماعة حلفائها فى العالم هو اليمين الجديد فى شرق أوروبا والولايات المتحدة ، لمزاج وتيار يدعم كل سلوكا قمعيا فى العالم ويتحفظ على أى منحى تحررى فى أى مكان ، يميل تلقائيا وبشكل غريزى لأشباه ترامب فى مشارق الكوكب ومغاربه ينحاز للأقوى وللأغنى ويعتبر السينما فى اشد اشكالها نخبوية وخفوت نوع من انواع التهديد .

ربما تكون فاشية بلا عقيدة متماسكة نظرا لأنها منبثقة من الوطنية المصرية التى لا تمتلك اطارا منهجيا ونظريا وفلسفيا مؤسسا لتصوراتها ، لكنها أحدى النسخ العسكرية للفاشية ، حيث الوصاية التامة ، النهر والزجر المستمر للناس ، تصور امكانية تشكيل اجساد وارواح الناس وفقا لمازورة ما واحدة حتى لو كانت مجهولة لهم هم أنفسهم ، التعامل مع أى فكرة غير مفهومة لهم إنها تهديد و عمل عدائى بالتعريف ولأخر درجات الأستهداف.. وها نحن أمام اعلانات تلفزيونية مهللة بمناسبة افتتاح معسكرات سجون ، فما الفاشية اذن ؟

 لكن للأسف لدى المثقفون المصريون ولا سيما من أبناء جيلى ومن هم أصغر عيبا هيكليا فى خيالهم الفكرى يتمثل فى أنهم لا يتصورون تحقق الأيديولوجيات إلا فى أكثر تجلياتها مشهدية ودرامية ، ربما جاءت العدوى أثناء ثورة يناير نفسها والتى كانت عبارة عن دراما مصورة على الهواء مباشرة تتدفق فيها المشاهد بلا توقف ومن كل الزوايا حيث الحدث والمكان فيها هو البطل ، يتصور البعض أن الفاشية لا تتحقق إلا مع وجود معسكرات عمل جماعية وأفران غاز وخصوم سياسيين يتم القائهم بالجملة من نوافذ المصالح العامة ، فذلك  كان التجلى المشهدى الأعلى للفكرة ، أخرين يتخيلون سيادة التيارات الإسلامية لا يكتمل الا بمشهد لأمراة متهمة بالزنا مدفون نصفها الأسفل فى الرمال ونصفها الأعلى يتلقى حجارة مقيمو الحد ، اما رومانسيى الشيوعية فالثورة المكتملة لديهم هى متاريس يقف عليها عمال وشباب يعزفون موسيقى مبتهجة ، عفوا فالتجارب ليست أسيرة للمشهد ، يمكن للفاشية أن تتحقق بدون معسكرات عمل ، ويمكن للأسلام السياسى أن تتحقق سيطرة منطقه بدون تيار أسلامى أصلا ولا عقوبات بدنية ، ويمكن للأشتراكية ان تقترب بدون محن ثورى .

نحن الان فى فاشيتنا نحن ، هى ليست الفاشية الأيطالية ذات المشروع الأجتماعى الوثاب الذى حاول دمج الجنوب الأيطالى الفلاحى الفقير فى الدولة الحديثة ، ليست النازية الألمانية التى عملت على إشعال الحماس فى كل مكونات الشعب الألمانى نحو العمل والتراكم وفقا لعقائد كراهية متدفقة المشاعر ، نحن أشبه بفاشية المستوطنين الفرنسيين فى الجزائر من دون أن يكون مستوطنينا فرنسيين ، من دون أن يكون لديهم مرافىء هروب يوم أن تقع الواقعة ، حيث لا بواخر تنقلهم إلى الوطن الأم حين يخسرون معركتهم الأخيرة ، نحن وفاشيينا نتنازع نفس البلد ونفس التراب ونفس الموارد ، لذا فالمعركة مؤلمة ومخيفة ، لا نريدها صفرية ولكن شريف منير والظابط الذى كلفه يريدوها كذلك .

نتصارع الان على الصورة ، عنوان الصراع ليس ماهى الصورة الأجمل ، أو الأمثل ، بل ما هى الصورة الوحيدة المسموح بوجودها ، ماهو الأجتماع الوحيد المصرح به ماديا ، مهرجان الجونة لأستعراض الكينونة البرجوازية المتسامح مع اجتماعها المشترك ، كأجتماع لطيف وظريف لأطياف التسلية ، ولكنه أيضا أجتماع مذنب ، نود أن نحذره كل لحظة بانه رهن إرادة وحسابات الطغمة الفاشية المسيطرة ، تستعرضون فساتينكم للحد الذى نقرر عنده تأديبكم على هذا الإستعراض بأسم الوطن والدين والتقاليد ، اما الأخرين فغير مسموح لهم بالصورة من الأصل ، حتى ولو كانت فنتاسية ، حتى ولو كانت جزء من رواية لفيلم نخبوى كسب فى أسبوع النقاد فى مهرجان كان ، ليس هناك سقف من الأصل فالمطلوب ان تؤمن بأن ملعبك لن يتجاوز مساحة الشاعر الذى قال يوما ما ” أرفع حذائك الثقيل عنى لم يعد أنفى مكانه “

حين حاولت بعض الفتيات من غير ” الجونيات ” استعراض فساتينهن كان عقابهن هو السجن المؤبد ، هذه هى رسالة الأستيطان المصرى الحديث الذى لم يكترث أبدا فى أى لحظة من اللحظات إلى دلالة الترجمة الأنجليزية لمنطقة التجمع الخامس على تطبيق انستجرام والويكيبديا حيث تسمى ” The Fifth Settlement ” هكذا وبدون مواربة .. ومع استمرار سنين عدم الأكتراث وتحول نمط الحياة الأستيطانى إلى نمطا حصريا لأحتلال الوطن ، واعتياد شريف منير وظابطه لهذه العوالم كعوالم حصرية ، أصبح هؤلاء فى حالة تحفز مجنون وأستعداد دائم للمعركة ، تماما كالمستوطنين المسلحين فى الجزائر و فلسطين ، أصغر همسة أو اشارة أو دلالة تعبر عن وجود عدوهم الطبقى ولو فى فيلم لن يراه سواهم تقابل بدرجة مأفونة من الشراسة والأستعداد المفتوح للصراع .

أما أكذوبة صورة مصر فقد فقدت أى مصداقية لها حين أعلننا منذ ثمانية سنوات أننا لن نكترث بما يقال عنا خارج حدودنا ، اعلنها وقتها حارس الفضيلة الفاشى محمد صبحى حين قال أقفل علينا يا سيادة المشير ، من لحظتها لم تعد مصر الرسمية أو النخبوية تكترث بما يقال عنها خارجها ولم تعد معنية بتحسين صورتها وفقا للمازورة الغربية ، فالفاشيين المعاصرين يعتبرون أن أحد اسباب سقوط مبارك واندلاع يناير هو مهادنته للأجندات الغربية الدخيلة مثل الديمقراطية وحقوق الأنسان وماشابه ، هؤلاء ماتت قلوبهم ولم يعد الغرب يخيفهم بعد أن رأوا بشار الأسد يجتث الشعب السورى وينجو بجريمته ضد الأنسانية ، لم تعد صورة مصر وسمعة مصر مهمة ، لم يعد المعنى أو المجرد مهما من الأصل ، هؤلاء يدركون أن الصراع ماديا محضا ، على اللحم والدم والذهب والفساتين ومن يرتديها .

لا تخف صديقى النمكى صاحب المعايير النظرية الدقيقة وعاشق المرجعية المشهدية ، فقط أعترف أنها فاشية ، فربما يخفف هذا بعضا من أحساسك بالقهر والهزيمة والذنب ، فالحياة تحت نير الفاشية قاسية بصدق ، والناجين أبطال ومؤسسين .

 

اشترك فى القائمة البريدية

أقرأ سياسة الخصوصية الخاصة بنا لمزيدا من المعلومات

الأصل فى عقوبة السجن، أى سجن لأى إنسان ، إنها شيئ مؤسف ، تلجأ اليه أجهزة العدالة وإنفاذ القانون لتحقيق العدالة للمجتمع ، وفى هذه العقوبة يأمل المجتمع للفرد المعاقب أن تكون تجربته فى السجن سببا ومدخلا لحياة جديدة أفضل له بعد إنقضاء العقوبة ، وفى حال أن عقوبة السجن مؤبدة أو مدى الحياة فدلالة…

Comments

  1. أنا مستمتع فشخ و الله بمقالاتك و الله يا أستاذ محمد

أترك تعليق